وَجُمْهُورُ الصُّوفِيَّةِ، وَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَادَةِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ وَالسَّادَةِ الشَّاذِلِيَّةِ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ السَّنِيَّةِ وَاسْتِعْمَالِ الْمَرَاكِبِ الْبَهِيَّةِ ; لِأَنَّ السَّلَفَ لَمَّا رَأَوْا أَهْلَ اللَّهْوِ يَتَفَاخَرُونَ بِالزِّينَةِ وَالْمَلَابِسِ أَظْهَرُوا لَهُمْ بِرَثَاثَةِ مَلَابِسِهِمْ حَقَارَةَ مَا حَقَّرَهُ الْحَقُّ مِمَّا عَظَّمَهُ الْغَافِلُونَ، وَالْآنَ قَدْ قَسَتِ الْقُلُوبُ وَنُسِيَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَاتَّخَذَ الْغَافِلُونَ رَثَاثَةَ الْهَيْئَةِ حِيلَةً عَلَى جَلْبِ الدُّنْيَا وَوَسِيلَةً إِلَى حُبِّ أَهْلِهَا فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ وَصَارَ مُخَالِفُهُمْ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ مُتَّبِعًا لِرَسُولِهِ وَلِلسَّلَفِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذُلِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ لِذِي رَثَاثَةٍ أَنْكَرَ عَلَيْهِ جَمَالَ هَيْئَتِهِ: يَا هَذَا هَيْئَتِي هَذِهِ تَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهَيْئَتُكَ هَذِهِ تَقُولُ أَعْطُونِي مِنْ دُنْيَاكُمْ شَيْئًا لِلَّهِ. وَأَمَّا النَّقْشَبَنْدِيَّةُ فَعُمْدَةُ غَرَضِهِمُ التَّسَتُّرُ بِحَالِهِمْ وَالتَّبَاعُدُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِي أَفْعَالِهِمْ هَذِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وَلِهَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ أَيْضًا مِنَ الثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ وَأَكَلَ مِنَ اللَّذِيذَاتِ الطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الْبَذَاذَةَ وَظُهُورَ الْفَاقَةِ فِي أَحْوَالِهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ أَسْلَمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ فَرِيقٍ، وَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ» . وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا وَعَلَيْهِ أَطْمَارٌ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: ثَوْبٌ دُونٌ، فَقَالَ لَهُ: «هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟» فَقَالَ: نَعَمُ، فَقَالَ: «مِنْ أَيِ الْمَالِ؟» قَالَ: مِنْ كُلِّ مَا آتَى اللَّهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالشِّيَاهِ، فَقَالَ: «فَكَثِّرْ نِعْمَتَهُ وَكَرَامَتَهُ عَلَيْكَ» أَيْ فَأَظْهِرْ أَثَرَ نِعْمَتِهِ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ بِلِسَانِ الْقَالِ وَالْحَالِ لِيَكُونَ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَالْمَآلِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ، وَفِي السُّنَنِ أَيْضًا: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» . أَيْ لِإِنْبَائِهِ عَنِ الْجَمَالِ الْبَاطِنِ وَهُوَ الشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ، وَهَاهُنَا مَزْلَقَةٌ لِقَوْمٍ وَمَصْعَدَةٌ لِآخَرِينَ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ; حَيْثُ لَا بُدَّ لِلسَّالِكِ فِيهِمَا مِنْ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ وَإِخْلَاصِ تِلْكَ الطَّوِيَّةِ فَلَا يَلْبَسُ بِافْتِخَارٍ وَلَا يَتْرُكُ بُخْلًا وَاحْتِقَارًا، فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ» وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَمَّلُ لِلْوُفُودِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا اعْتِبَارَ بِالْجَمَالِ الظَّاهِرِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ وَالْمَدَارُ عَلَى طَهَارَةِ الْقُلُوبِ وَمَعْرِفَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ ; وَلِذَا وَرَدَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» . وَلَا يُنَافِي لُبْسُهُ لِهَذَيْنَ مَا مَرَّ مِنْ صِحَّةِ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الْمُزَعْفَرِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لِمَا أَنَّهُ لَبِسَ بَعْدِ نَفْضِ الزَّعْفَرَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ النَّهْيِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْقِصَّةِ الطَّوِيلَةِ أَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ. (وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ) : وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَتَرْكُهَا لِعَدَمِ
مُنَاسَبَتِهَا لِمَا هُوَ فِيهِ، وَهِيَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ، فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» وَعَلَيْهِ أَسْمَالُ مُلَيَّتَيْنِ قَدْ كَانَتَا بِزَعْفَرَانٍ فَنَفَضَتَا، وَبِيَدِهِ عَسِيبُ نَخْلَةِ، قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُ أَرْعَدْتُ مِنَ الْفَرَقِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّكِينَةُ» ، فَذَهَبَ عَنِّي مَا أَجِدُ مِنَ الرَّوْعِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَأَنَّهُ مَا اطَّلَعَ عَلَى الْقِصَّةِ بِطُولِهَا الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِتَرْكِهَا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ أَبِي عُمَرَ الْجُوَيْنِيِّ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَّانَ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَتْنِي جَدَّتَايَ صَفِيَّةٌ وَدُحَيْبَةُ بِنْتَا عُلَيْبَةَ أَنَّ قَيْلَةَ بِنْتَ مَخْرَمَةَ حَدَّثَتْهُمَا أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ حَبِيبِ بْنِ أَزْهَرَ أَخِي بَنِي خَبَّابٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ النِّسَاءَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَانْتَزَعَ بَنَاتِهَا مِنْهَا أَيُّوبُ بْنُ أَزْهَرَ عَمُّهُنَّ، فَخَرَجَتْ تَبْتَغِي الصَّحَابَةَ، أَيِ الْمُصَاحَبَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. وَتَرَكْتُهُ لِأَنَّ النُّسْخَةَ كَانَتْ سَقِيمَةً وَمُصَحَّفَةً وَمُحَرَّفَةً جِدًّا بِحَيْثُ مَا كَانَ يُفْهَمُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَعَ طُولِهِ، فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ وَرَقَتَيْنِ مَعَ شَرْحِ غَرِيبِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاخْتِصَارِ فِي أَرْبَعَةِ أَوْرَاقٍ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْفَضْلِ) : بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ. (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ