بِالْعَكْسِ وَهُوَ الَّذِي صَحَّحُوهُ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ، ثُمَّ «الْحِبَرَةَ» نَوْعٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ، وَرُبَّمَا كَانَتْ بُرُزٌ. قِيلَ: هِيَ أَشْرَفُ الثِّيَابِ عِنْدَهُمْ تُصْنَعُ مِنَ الْقُطْنِ، فَلِذَا كَانَ أَحَبَّ، وَقِيلَ: لِكَوْنِهَا خَضْرَاءَ وَهِيَ مِنْ ثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سُمِّيَتْ حِبَرَةً لِأَنَّهَا تُحَبَّرُ أَيْ تَزَيُّنِ، وَالتَّحْبِيرُ التَّحْسِينُ، قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ)
وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَتْ هِيَ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ زِينَةٍ، وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ احْتِمَالًا لِلْوَسَخِ، قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الْحِبَرَةِ، وَعَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْمُخَطَّطِ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ، انْتَهَى. وَهُوَ مَحَلُّ بَحْثٍ، وَالْجُمَعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ أَحَبَّ الثِّيَابِ عِنْدَهُ كَانَ الْقَمِيصَ ; إِمَّا بِمَا اشْتُهِرَ فِي مِثْلِهِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَبِّ كَمَا قِيلَ فِيمَا وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، وَإِمَّا بِأَنَّ التَّفْضِيلَ رَاجِعٌ إِلَى الصِّفَةِ فَالْقَمِيصُ أَحَبُّ الْأَنْوَاعِ بِاعْتِبَارِ الصُّنْعِ وَالْحِبَرَةُ أَحَبُّهَا بِاعْتِبَارِ اللَّوْنِ أَوِ الْجِنْسِ، فَتَأْمَّلْ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْأَحَبُّ الْمُطْلَقُ هُوَ أَنْ يَكُونَ حِبَرَةً وَجُعِلَ قَمِيصًا.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) : أَيِ الثَّوْرِيُّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَقِيلَ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ. (عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ) : حَدِيثُهُ فِي الصِّحَاحِ. (عَنْ أَبِيهِ) : صَحَابِيٌّ، مَرَّ ذِكْرُهُ. (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ وَقَعَتْ لَهُ فِي بَطْحَاءِ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى آخِرِهِ. وَفِيهِ: وَخَرَجَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا. وَالْبَطْحَاءُ مَوْضِعٌ خَارِجَ مَكَّةَ، وَيُقَالُ لَهُ الْأَبْطَحُ، قَالَ: وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ بَلَلَ وَضَوْئِهِ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا مَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا أَخَذَ مِنْ بَلَلِ صَاحِبِهِ. وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ أَنَّ الْوَضُوءَ الَّذِي ابْتَدَرَهُ النَّاسُ كَانَ فَضْلَ الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، وَزَادَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ عَوْنٍ عَنْ أَبِيهِ: وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهِمَا وُجُوهَهُمْ، قَالَ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي فَإِذَا هِيَ أَبْرُدُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ. قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَوْنٍ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ ; لِقَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى قَوْلِهِ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ) : وَالْحُلَّةُ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، كَذَا فِي الْمُهَذَّبِ، وَفِي الصِّحَاحِ: لَا يُسَمَّى حُلَّةً حَتَّى يَكُونَ ثَوْبَيْنِ، انْتَهَى. وَالْمُرَادُ بِالْحُلَّةِ الْحَمْرَاءِ بُرْدَانِ يَمَانِيَانِ مَنْسُوجَانِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ مَعَ سُودٍ كَسَائِرِ الْبُرُودِ الْيَمَنِيَّةِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنَ الْخُطُوطِ الْحُمْرِ، وَإِلَّا فَالْأَحْمَرُ الْبَحْتُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمَكْرُوهٌ لُبْسُهُ لِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَرَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ حُلَّتَانِ حَمْرَاوَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. وَحَمَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى مَا صُبِغَ بَعْدَ النُّسَجِ، وَأَمَّا مَا صُبِغَ غَزْلُهُ ثُمَّ نُسِجَ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ زِينَةُ الشَّيْطَانِ وَمُوجِبٌ لِلْخُيَلَاءِ وَالطُّغْيَانِ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْحُمْرَةَ مِنْ زِينَةِ الشَّيْطَانِ. وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَبِسَ الْأَحْمَرَ الْبَحْتَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ النَّهْيِ أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ عَدَمُ التَّنَافِي بِالتَّخْصِيصِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي مَا يُظْهِرُ لَكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ. (وَكَأَنِّي أَنْظُرُ) : أَيِ الْآنِ. (إِلَى بَرِيقِ سَاقَيْهِ) : أَيْ لَمَعَانِهِمَا، فَفِي الْقَامُوسِ: بَرَقَ الشَّيْءُ بَرْقًا وَبَرِيقًا وَبُرْقَانًا أَيْ لَمَعَ. وَالْحَنَفِيُّ