فكتب المأمون بذلك إلى طاهر ليقوي عزمه، فلما كتب بقتله علي بن عيسى ابن ماهان واستيلائه على عسكره وأمواله، وخبر ما أولى الله المأمون في أوليائه؛ من النصر والظفر بأعدائه، دعا ذوبان وأمر له بمائة ألف درهم فلم يقبلها. وقال: أيها الملك؛ إن ملكي لم يوجهني إليك هدية لينقصك مالك؛ فلا تجعل ردي نعمتك سخطاً؛ فليس عن استخفافٍ بقدرها؛ وسوف أقبل ما يفي بهذا المال ويزيد، وهو كتاب يوجد في العراق فيه مكارم الأخلاق، وعلوم الآفاق، وهو كتاب عظيم للفرس، فيه شفاء النفس، به من صنوف الآداب، ما لا يوجد في كتاب، عند عاقل لبيب، ولا فطن أريب، يوجد في خزائن، عند الإيوان بالمدائن.

فلما قدم المأمون بغداد، واستقر بها ملكه اقتضاه ذوبان حاجته، وأمر أن تكتب القصة والموضع الذي يشير إليه، فكتب: سر إلى وسط الإيوان، من غير زيادة ولا نقصان، واجعل القسمة بالذرعان، ثم احفر المدر، فاقلع الحجر؛ فإذا وصلت إلى الساجة، فاقتلعها تجد الحاجة، فخذها ولا تعرض لغيرها، فيلزمك غب ضيرها.

فوجه المأمون في ذلك رسولاً حصيفاً، فسار إلى الموضع، ففعل ما قيل له؛ فوجد صندوقاً صغيراً من زجاج أسود عليه قفل منه، فحمله ورد الحفرة إلى حالها الأول.

قال عمرو بن بحر: فحدثني الحسن بن سهل قال: إني لعند المأمون إذ وصل ذلك الصندوق، فجعل يتعجب منه، ثم دعا بذوبان فقال له: هذه بغيتك؟ قال: نعم! أيها الملك، لست ممن تنقض رغبته ذمام عهده، ولا يحل طمعه عقدة وفائه، ثم تكلم بلسانه، ونفخ في القفل فانفتح، فأدخل يده وأخرج منه خرقة ديباج فنشرها فسقط منها أوراق، فرد الأوراق في الخرقة ونهض. ثم قال: أيها الملك، هذا الصندوق يصلح لرفيع خبيات خزائنك، فأمر به فرفع.

قال الحسن بن سهيل: فقلت: ترى يا أمير المؤمنين أن أسأله ما في هذا الكتاب؟ قال: يا حسن، أفر من اللؤم ثم أرجع إليه؟ أمرته ألا يفتحه بين يدي قطعاً للطمع فيه، وصمتةً بالمسألة عنه، وتحرياً للرغبة فيه، والله لا كان هذا أبداً.

فلما خرج صرت إلى منزله فسألته عنه مسألة راغب فيه، فقال: هذا كتاب جاودان خرد تأليف كنجور ملك سبراشهرا، فقلت: أعطني ورقةً منه أنظر فيها. فأعطاني فوقعت عليها عيني. وأسرجت لها ذهني، وأجلت فيها فكري؛ فلم أزدد منه إلا بعداً؛ فدعوت بالخضر بن علي، وذلك في صدر النهار، فلم ينتصف حتى فرغ من قراءتها بينه وبين نفسه؛ ثم جعل يفسرها وأنا أكتب، ثم رددت الورقة وأخذت منه نحو ثلاثين ورقة، فدخلت عليه يوماً فقلت: يا ذوبان؛ يكون في الدنيا من يحسن مثل هذا الكتاب؟ قال: يجوز أن يكون فيها من يحسن ترجمة هذا الكتاب، ولا يجوز أن يكون فيها من يحسن مثل هذا الكتاب. قلت: فهل تعرف من يترجمه؟ قال: نعم، وأصفه لك، هو طوال أنزع، إن تكلم تتعتع، يفوق أهل زمانه، بما يكون من شأنه، اسمه خضير، يقوم بأمر خطر، لو كان له عمر، ولولا أن العلم سبيل الدنيا والآخرة، وهو الكرامة الفاخرة، ومن معرفة قدره الضن به، لرأيت أن أدفعه إليك بتمامه، ولكن لا سبيل إلى أكثر مما أخذت.

ولم تكن الأوراق التي أخذتها على التأليف؛ لأنا أصبنا ورقة فيها علامات فيها الكنوز، وآخر الورقة مكتوب: دليل هذا الباب في الورقة التي تليها؛ ولم نجد غير هذا بتاً؛ غير أنا وجدنا أبواباً من الحكمة تشهد لها القلوب بحقيقة الصحة، وتحلف طيها الألسن بغاية النهاية.

هذا من كلام الحسن بن سهل كقول أبي تمام يصف شعره:

ومحلفةٍ لمّا ترد أُذن سامعٍ ... فتصدر إلاّ عن يمينٍ وشاهد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015