فهذا يدل على ما قلناه من أن قوله عز وجل: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أمر بالدوام على ما كان أمره به من اتخاذ المقام مصلى، ثم إن هذه الآيَات كلها في قصة واحدة، بخلاف الناسخ
والمنسوخ، ولم يقل أحد من المفسرين إن قوله عز وجل: (سَيَقُول
السفَهَاءُ) أنزل بعد قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ. . . فَوَلِّ وَجْهَكَ) الآية، وإنما وهم الزمخشري، فظن أن الإخبار
بما يكون بعد الشيء قبل وقوعه هو الواقع بعده، وهذا غلط بين.
وإنما مثاله أن يقول الملك لمن يريد أن يوئيه ناحية: سيطعن السفهاء في
ولايتك، ثم يقول له بعد ذلك: تولى ناحية كذا.
كذلك قال الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) الآية إخباراً بما سيكون بعد التولية، ثم قال سبحانه بعد ذلك: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) . الآية، وهذا واضح جداً، وقد خفي عليه هذا، فصار إلى ما صار إليه من تقدم الآية في التلاوة، وتأخرها في الإنزال، وليس بهين أن يجعل كلام الله عز وجل بهذه المثابة.
بل أقول: إن الآية غير منسوخة بالتي تقدمت، بل معناها: أن
المتوفى عنها زوجها كانت لها متعه، كما أن للمطلقة متعة، وكانت متعة
المتوفى عنها زوجها أن تخير بعد انقضاء العدة بين أن تقيم إلى تمام
الحول، ولها السكنى، والنفقة، وبين أن تخرج؛ يدل على صحة ذلك
قوله سبحانه وتعالى: (مَتَاْعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) .
أي لا تخرج إذا لم ترد، ثم قال تعالى: (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) .