وفيه أيضاً: الاعتكاف: الاعتكاف من العكوف، وهو: لزوم الشيء، كما قال إبراهيم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] فهو: لزوم المساجد لطاعة الله، حتى يتفرغ الإنسان للعبادة، وينقطع من الدنيا، ويقبل على ربه.
وأصل مشروعية الاعتكاف من أجل طلب ليلة القدر، انظر الليلة العظيمة! من أجل طلبها.
اعتكف النبي عليه الصلاة والسلام العشر الأول يعني: أول الشهر، ثم اعتكف العشر الأاوسط، يترجاها، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر، وأُرِيَ في المنام أنه يسجد في صبيحتها على الماء والطين.
فلما تمت العشرون الأولى أَخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أنه أُرِيَ ليلةَ القدر، وأنه رأى في المنام أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، وكان هذا الصبح (20) ، قال: (من كان منكم معتكفاً فليعتكف العشر الأواخر) لأنه ما جاءت الليلة هذه التي رآها في المنام، فلما كان ليلة (21) أمطرت السماء، وكان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام من عريش، وهو الذي يسميه الناس: (عِشَّة) .
فلما أمطرت السماء، وَكَفَ المسجدُ، وخَرَّ المطر على الأرض، وصارت الأرض طيناً، فلما صلى النبي عليه الصلاة والسلام الصبح سجد على الماء والطين، ليلة (21) .
فاعتكف النبي عليه الصلاة والسلام العشر الأواخر كلها.
فهذا هو أصل مشروعية الاعتكاف، ولهذا لا يُسن الاعتكاف إلا في رمضان في العشر الأواخر منه، طلباً لليلة القدر، وما ذكره بعض الفقهاء من أنه يُسن للإنسان أن يعتكف كل وقت، وأنه يُسن إذا دخل المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه، فإنه قول عارٍ عن الدليل، أين النبي صلى الله عليه وسلم من هذا؟ لم يعتكف في حياته في غير رمضان إلا مرة اعتكف في شوال؛ لأنه ترك الاعتكاف في رمضان، لما أراد أن يعتكف خرج وإذا نساؤه قد ضربن أخبية، يردن الاعتكاف، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (آلْبِرَّ يُرِدْنَ؟!) يعني: هل هنَّ يُرِدْنَ البِرَّ، يقُمْن يعتَكِفْنَ؟! أو من أجل كل واحدة تنظر للثانية، وتسوِّي الخباء مثلها؟! ثم أَمَر بالأخبية فنُقضت، ثم ترك الاعتكاف تلك السنة، ما اعتكف عليه الصلاة والسلام، ثم قضاه في شوال، ولم يعتكف أبداً في غير رمضان.
إذاً: نقول لا يُسن للإنسان أن يعتكف في غير رمضان، بل لا يُسن أن يعتكف إلا في العشر الأواخر من رمضان، فيلزم المسجد للعبادة من صلاة وقراءة وذكر وغير ذلك، ولا يخرج منه إلا لما لابد له منه، مثل: لو لم يكن في المسجد ميْضأة يخرج يتوضأ، وليس فيه مرحاض فيخرج يقضي حاجته، يحتاج إلى مراجعة الطبيب يخرج، وإلاَّ فيبقى في المسجد؛ لكن لا بأس أن يكلم أحداً من خارج المسجد، وهو في داخل المسجد، ويخرج رأسه إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في مسجده، ويخرج رأسه إلى عائشة ترجِّله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتخذ الشعر، حيث إنه في ذلك الوقت كان عادة الناس.
هذا مما يُسن في العشر الأواخر؛ الاعتكاف.
ويجب أن يكون الاعتكاف في مسجد تُصلى فيه الجماعة، والأفضل أن يكون في الجامع؛ لئلا يحتاج إلى الخروج من المسجد للجمعة؛ إلا من كان إماماً أو مؤذناً في مسجد فإنه لا يجوز أن يعتكف في الجامع؛ لأنه إذا اعتكف في الجامع أهمل واجباً عليه وهو: الإمامة، والأذان، ومعلوم أن القيام بالواجب أحق من القيام بالسنة، خلافاً لما يظن بعض الناس الذين ليس عندهم فقه، تجدهم يحرصون على السنة ويهملون الواجب، يتركون ما أوجب الله عليهم من الوفاء به، من التزام الإمامة والأذان، ويذهبون إلى الشيء المستحب، هذا خطأ، هذا كالذي يعمر قصراً ويهدم مصراً.
قال أهل العلم: ولا بأس أن يزوره أحد من أهله أو من أصدقائه، ويتحدثون إليه يسيراً، كما حصل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث جاءته امرأته صفية بنت حيي في ليلة من الليالي، وتحدثت معه ساعة، ثم انقلبت.
وفي هذه العشر الأواخر استحباب التهجُّد كل الليل إذا أمكن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر أيقظ أهله, وشد المئزر، وأحيا الليل، وأيقظ أهله، ولم يكن يوقظهم في العشر الأواسط، ولا الأول، يوقظهم للتهجد في العشر الأواخر؛ لأن العشر الأواخر تُرجى فيها ليلة القدر؛ ليلة القدر التي من قامها إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، فينبغي للإنسان أن يحيي الليل كله بالتهجُّد إذا أمكن.
واعلم أن الاشتغال للعبادة في مقدمات العبادة تابع للعبادة، فإذا قام الإنسان وتوضأ ومشى إلى المسجد، فكل هذا يعتبر تابعاً للعبادة، فهو من العبادة.
وهذا التهجد ليس محصوراً في عدد معين على وجه الوجوب، يعني: معناه لا يجب أن نقتصر على (11) ركعة، لنا أن نزيد إلى (13) ، إلى (15) ركعة، إلى أكثر من ذلك؛ حسب نشاطنا وقوتنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد وإن كان هو بنفسه لم يزد على (11) ، أو (13) ركعة؛ لكن لم يحدد، ما قال للناس: لا تزيدوا على هذا، بل سأله رجل قال: (يا رسول الله! ما ترى في صلاة الليل؟ قال: مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة أوترت له ما قد صلَّى) فهذا الرجل لا يعرف كيف صلاة الليل، فكيف يعرف قدرها؟ فأخبره النبي عليه السلام بالكيفية ولم يخبره بالكمية، يعني: بالقدر، فدلَّ هذا على أن القدر موكول للإنسان، أحياناً يرغب الإنسان أن يطيل القراءة والركوع والسجود ويقلل العدد، وأحياناً يرغب أن يخفف القراءة والركوع والسجود ويكثر العدد، والأمر في هذا كله واسع ولله الحمد، ليس شيءٌ منه واجباً، بل هو على حسب راحة الإنسان، وعلى حسب نشاطه.