كان هديه - صلى الله عليه وسلم - في الجنائز خير الهدي مخالفا لهدي سائر الأمم، مشتملا على الإحسان للميت، ومعاملته بما ينفعه في قبره، ويوم معاده، وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه، وعلى إقامة عبودية الحي، فيما يعامل به الميت، وكان من هديه في الجنائز، إقامة العبودية للرب تبارك وتعالي على أكمل الاحوال والإحسان إلى الميت، وتجهيزه إلى الله على أحسن أحواله وأفضلها، ووقوفه، ووقوف أصحابه صفوفا يحمدون الله، ويستغفرون له ويسألونه المغفرة والرحمة، والتجاوز عنه، ثم المشي بين يديه إلى أن يودعوه حفرته، ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره، سائلين له التثبيت أحوج ما كان إليه.
ثم يتعاهده بالزيارة إلى قبره، والسلام عليه، والدعاء له، كما يتعاهد الحي صاحبه في دار الدنيا.
فأول ذلك، تعاهده في مرضه وتذكيره الآخرة، وأمره بالوصية والتوبة، وأمر من حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه.
ثم النهي عن عادة الامم التي لا تؤمن بالبعث والنشور، من لطم الخدود، وشق الثياب، وحلق الرؤوس، ورفع الصوت بالندب والنياحة وتوابع ذلك.
وسن الخشوع للميت، والبكاء الذي لا صوت معه، وحزن القلب، وكان يفعل ذلك، ويقول: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب».
وسن لأمته الحمد والاسترجاع، والرضى عن الله، ولم يكن ذلك منافيا لدمع العين، وحزن القلب، ولذلك كان أرضى الخلق في قضائه وأعظمهم له حمدا، وبكى مع ذلك يوم مات ابنه إبراهيم، رأفة منه ورحمة للولد، ورقة عليه، والقلب ممتلى بالرضى عن الله عزوجل وشكره، واللسان مشتغل بذكره وحمده.
[أحكام الجنائز ص 6 - 7].