فحاصَرَهم خمساً وعشرين ليلة. فلمّا اشتدّ حصرُهم واشتدّ البلاء، قيل لهم: انزِلوا على
حُكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستشاروا أبا لُبابة بن عبدالمنذر، فأشار إليهم أنّه الذّبح. قالوا:
ننزلُ على حكم سعد بن مُعاذ. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "انزلوا على حكم سعد بن مُعاذ"
فنزلوا، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن مُعاذ، فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف،
قد حُمِل عليه، وحَفَّ به قومُه، فقالوا: يا أبا عمرو، حلفاؤك ومواليك وأهلُ النِّكاية ومن قد
عَلِمْتَ. قالت: ولا يَرجعُ إليهم شيئاً ولا يلتفتُ إليهم، حتى إذا دنا من دُورهم التفت إلى
قومه فقال: قد أنى لي ألاّ أُباليَ في الله لومةَ لائم. قالت: قال أبو سعيد: فلمّا طلَعَ قال
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُوموا إلى سيِّدِكم فأنزِلوه". قال عمر: سيّدنا الله، قال: "أنْزِلوه"،
فأنزلوه، فقال رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم -: "احكُمْ فيهم" قال سعد: فإنّي أحكمُ فيهم: أن تُقْتَلَ
مُقاتِلَتُهم، وتُسْبَى ذَرارِيُّهم، وتُقْسَمَ أموالُهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد حَكَمْتَ فيهم
بحُكم الله وحُكم رسوله".
ثم دعا سعدٌ فقال: اللهمّ إن كُنْتَ أبقيتَ على نبيِّك من حرب قُريش شيئاً فأبْقني
لها، وإن كُنْتَ قطعْتَ الحرب بينَه. وبينَهم فاقْبِضني إليك. قالت: فانفجر كَلْمُه، وكان قد
بَرِىءَ منه إلا مثلُ الخُرْص (?). ورجع إلى قُبّته التي ضَرَبَ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالت
عائشة: فحضرَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر. قالت: فوالذي نفسُ محمدٍ بيده، إني
لأعرفُ بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله عزّ وجلّ:
{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
قال علقمة: فقلت: أي أُمَّه، فكيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعُ؟ قالت: كانت عينُه لا
تدمعُ على أحدٍ، ولكنّه كان إذا وَجَدَ فإنما هو آخِذٌ بلحيته (?).
* طريق آخر:
حدّثنا البخاري قال: حدّثنا زكريا بن يحيى قال: حدّثنا عبدالله بن نُمير قال: حدّثنا
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: