وإنما حاجَّه إبراهيم بالدليل والنظر والعقل لا بمجرّد الخبر السمعي، ولا يقول عاقل: إنه يُعْلَم بخبر المخبر ما يُخْبِر به قبل أن يُعْلَم أنه صادقٌ في خبره، ولكن كثير من النظَّار يظنون أنّ الاستدلال بالكتاب والسنة، والاستدلال بسائر كلام الأنبياء إنما هو بمجرَّد خبرهم، قالوا: فلا بدّ أن نثبت بالأدلة العقلية قبل ذلك أنهم صادقون، وهذا كلام صحيح، لكنهم غلطوا من وجهين:
أحدهما: ظنهم أنّ الرسل لم تبيِّن للناس من الأدلة العقلية ما يعرفون به إثبات الصانع، وصِدْق رسله. وهذا غلطٌ عظيم، فإنّ الرسول إذا دعا قومًا إلى الله، فلا تتم دعوته إلا بأن يُبين ما يُعرف به صدقُه، ولا يُعرف صدقه إلا بأن يعرف الصانع، وتقوم الآيات على صدق رسله، فكيف يتوهّم أن الرسل إنما قادوا الناس بمجرّد أخبارٍ لا دليل على صدقها! وهل يَظنُّ هذا بالرسل إلا من هو مُفْرِطٌ في الجهل، بل الرسل بينوا للناس ما يُعرِّف صدقَهم، والقرآن مملوء من البراهين والآيات الدالة على صدق الرسل، بل وعلى إثبات الصانع، وقدرته وعلمه ووحدانيته وسائر المقدّمات التي يُظنّ أنّ العلم بصدق الرسول موقوفٌ عليها.
الوجه الثاني: أن هؤلاء سلكوا في إثبات الصانع وتصديق الرسول طرقًا مُتبدعَة ليست هي الطرق التي جاءت بها الأنبياء، فكانت تلك الطرق مبتدعَة في الدين ليست هي طرق المرسلين التي علموها للناس ودعوهم بها.