قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}:
فصلٌ في أن عبادة الله تعالى تمنعُ من معصيته، وأن إرادة هذا وهذا ضدَّان لا يوجدُ أحدهما إلا لنقص الآخر. والإنسان إذا وقع منه ذنبٌ كان لنقص عبادته لله تعالى، وهذا كما قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
فأخبر سبحانه أنه جعل الآخرة للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، فوصفهم بأنهم لا يريدون واحدًا من هذين، فمن أراد أحد هذين لم يكن من هؤلاء الذين أخبر أنه جعل لهم الدار الآخرة.
وهو تعالى لم يَصِفهم بهذا إلا بعدم الإرادة، والعدم المحض لا يُسْتَحَقُّ به الثواب؛ لأن عدم هذه الإرادة لا يكون إلا إذا أرادوا ما أمرهم به من عبادته وحده لا شريك له، ولذلك استحقُّوا الدار الآخرة.
وقال في المخالفين لهؤلاء: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ • وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 13 - 14]، فوصفهم بالظلم والعُلوِّ.
وقوله تعالى سبحانه (?): {لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} ذكر الفساد