وكذلك القرآن إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه وحفظه وأداه إلى غيره، فهما من القسم الثاني، وإنما القسم الأول من شرب قلبُه معناه فأثر في قلبه كما أثّر الماء في الأرض الذي شربته، فحصل له به من ذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته ومحبة الله وخشيته والتوكل عليه والإخلاص له، وغير ذلك من حقائق الإيمان الذي يقتضيها الكلام، فهؤلاء كالطائفة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولابد أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر الكلأ والعشب. قال الحسن البصري (?): ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل.
وفي الصحيحين (?) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". وهذا مبسوط في مواضع، مثل "كتاب الإيمان وشرح أحاديثه وآياته" (?) وغير ذلك (?).
والسلف كانوا يجعلون الفقيه اسمًا لهذا، والمتكلم بالعلم بدون هذا يسمونه خطيبًا، كما قال ابن مسعود (?): إنكم في زمنٍ كثيرٍ فقهاؤه قليلٍ خطباؤه، كثيرٍ معطوه قليلٍ سائلوه؛ وسيأتي عليكم زمانٌ كثيرٌ خطباؤه قليل فقهاؤُه، كثيرٌ سائلوه، قليلٌ مُعطوه".