والرب تعالى له الكمال الذي لا يَقدِرُ العبادُ قَدْرَه في أنواع علمِه وحكمته ومحبته وفرحه وبهجته، وغير ذلك مما أخبرت به النصوص النبوية، ودلَّتْ عليه الدلائل الإلهية، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وهو في كل ذلك غنيٌّ عن كلِّ ما سواه، فهو الذي يجعل في قلوب العباد من أنواع الأغذية والأقوات والمسارّ والفرح والبهجة مالا يجعله غيره، وهو إذا فرح بتوبة التائب فهو الذي جَعَله تائبًا حتى فَرِحَ بتوبته، لم يحتج في ذلك إلى أحدٍ سواه.
والتعبيرِ بلفظ القوت والطعام والشراب ونحو ذلك عما يُقِيتُ القلوبَ ويُغذِّيها كثيرٌ جدًّا، كما قال بعضهم: أَطعمَهم طعامَ المعرفة، وسقاهم شرابَ المحبّة. وقال آخر:
لها أحاديثُ من ذِكراكَ يَشغَلُها عن الشَرابِ ويُغْنِيها عن الزادِ
وكثيرًا ما تُوصَف القلوبُ بالعطش والجوع، وتُوصفَ بالريّ والشّبَع. وفي الصحيحين (?) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رأيتُ كأنّي أُتِيتُ بقَدَحٍ، فشربتُ حتى إني لأرى الرِّيَّ يَخرجُ من أظفاري، ثمَّ ناولتُ فَضْلِي عمرَ"، قالوا: فما أوَّلتَه يا رسولَ الله؟ قال: "العلم". فجعل العلم بمنزلة الشراب الذي يُشرَب.
وفي الصحيحين (?) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنَّ مَثلَ ما بَعثنَي الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضًا، فكانت منها طائفة قَبلَتِ الماءَ فانبتتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها طائفة أمسكتِ الماء، فشربَ الناس وسَقَوا وزرعوا، وكانت منها