ومن قَصَّر فيه حتى تضرَّر بتركه مع القُدرة على استعماله، فهو مُفرِّطٌ يستحقُّ العقوبة، لكن الله سبحانه قد يقوِّي بعضَ عباده من ذلك على مالا يَقوى عليه غيرُه، فإذا عَمِلَ بمقتضى قوَّته التي اختص بها عن غيره، فلا حرجَ عليه، ولهذا كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُواصلُ في صيامه، وينهى عَنْ ذلك أصحابه، ويقول لهم: ((إنِّي لستُ كهيئتكم، إني أُطْعَمُ وأُسقى)) (?) ، وفي رواية: ((إنِّي أظلُّ عند ربي يُطعمني ويسقيني)) (?) ، وفي رواية: ((إنَّ لي مُطْعِماً يُطعمني، وساقياً يسقيني)) (?) .

والأظهر أنَّه أراد بذلك أنَّ الله يُقوِّيه ويُغذيه بما يُورده على قلبه من الفتوح

القدسية، والمنحِ الإلهية، والمعارف الربانية التي تُغنيه عن الطعام والشراب بُرهةً مِنَ

الدَّهر، كما قال القائل (?) :

لها أَحاديثُ مِنْ ذِكراكَ تَشغَلُها ... عَنِ الشَّرابِ وتُلهيهَا عَنِ الزَّادِ

لها بِوجْهِكَ نُورٌ تَستَضِيءُ به ... وقْتَ المَسيرِ وفي أَعقابها حَادي

إذا اشتَكَتْ من كلالِ السَّيرِ أوْعَدها ... رَوْحُ القدوم فتحيى عندَ مِيعادِ

فلا تجوع ولا تظمأ وما ضعفت ... ولا تظل إذا كانت لها هادِ (?)

وقد كان كثيرٌ من السَّلف لهم مِن القُوَّة على ترك الطعام والشراب ما ليس

لغيرهم، ولا يتضرَّرونَ بذلك. وكان ابنُ الزبير يُواصل ثمانية أيام (?) . وكان أبو الجوزاء يُواصل في صومه بين سبعة أيام، ثم يَقبِضُ على ذراع الشاب فيكَادُ

يَحطِمُها (?) . وكان إبراهيم التيمي يمكث شهرين لا يأكلُ شيئاً غير أنَّه يشرب شربة حلوى (?) . وكان حجاج ابنُ فرافصة يبقي أكثر من عشرة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا ينام (?) ، وكان بعضهم لا يُبالي بالحرِّ ولا بالبرد كما كان عليٌّ - رضي الله عنه - يلبس لباس

طور بواسطة نورين ميديا © 2015