وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ يُتَصَوَّرُ عَلَيْهَا الْإِكْرَاهُ، فَإِذَا أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ، لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَكَانَ لَغْوًا، فَإِنَّ كَلَامَ الْمُكْرَهِ صَدَرَ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، فَلِذَلِكَ عُفِيَ عَنْهُ، وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَبِهَذَا فَارَقَ النَّاسِيَ وَالْجَاهِلَ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعُقُودُ: كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، أَوِ الْفُسُوخُ: كَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَكَذَلِكَ الْأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ مَا يُقْبَلُ الْفَسْخُ عِنْدَهُ، وَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ: لَا يَلْزَمُ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْأَيْمَانِ، فَأُلْزِمَ بِهَا مَعَ الْإِكْرَاهِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، فَفَعَلَهُ مُكْرَهًا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْنَثُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ، كَمَا يَحْنَثُ إِذَا فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ كَرْهًا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ كَمَا سَبَقَ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: يَحْنَثُ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا حُمِلَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ - وَهُوَ الْقَفَّالُ - مِنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا قُلْنَا نَحْنُ فِي النَّاسِي، وَخَرَّجَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا لَنَا.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَدَاءِ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَبَاعَ عَقَارَهُ لِيُؤَدِّيَ ثَمَنَهُ، فَهَلْ يَصِحُّ الشِّرَاءُ مِنْهُ أَمْ لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: إِنْ بَاعَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ اشْتُرِيَ مِنْهُ، وَإِنْ بَاعَهُ بِدُونِهِ لَمْ يُشْتَرَ مِنْهُ، وَمَتَى رَضِيَ الْمُكْرَهُ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِحُدُوثِ رَغْبَةٍ لَهُ فِيهِ بَعْدَ الْإِكْرَاهِ، وَالْإِكْرَاهُ قَائِمٌ، صَحَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا بِهَذَا الْقَصْدِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا، وَفِيهِ بُعْدٌ.