يَعْنِي أَنَّهُمْ يُعَامِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّلَّةِ وَاللِّينِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] يَعْنِي أَنَّهُمْ يُعَامِلُونَ الْكَافِرِينَ بِالْعِزَّةِ وَالشِّدَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِغْلَاظِ لَهُمْ، فَلَمَّا أَحَبُّوا اللَّهَ أَحَبُّوا أَوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ، فَعَامَلُوهُمْ بِالْمَحَبَّةِ وَالرَّأْفَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَأَبْغَضُوا أَعْدَاءَهُ الَّذِينَ يُعَادُونَهُ، فَعَامَلُوهُمْ بِالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ - يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 29 - 54] ، فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْمَحَبَّةِ مُجَاهَدَةَ أَعْدَاءِ الْمَحْبُوبِ، وَأَيْضًا فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعَاءٌ لِلْمُعْرِضِينَ عَنِ اللَّهِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ بَعْدَ دُعَائِهِمْ إِلَيْهِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَالْمُحِبُّ لِلَّهِ يُحِبُّ اجْتِلَابَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إِلَى بَابِهِ؛ فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الدَّعْوَةَ بِاللِّينِ وَالرِّفْقِ، احْتَاجَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الشِّدَّةِ وَالْعُنْفِ عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ. {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] ؛ لَا هَمَّ لِلْمُحِبِّ غَيْرَ مَا يُرْضِي حَبِيبَهُ، رَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وَسَخِطَ مَنْ سَخِطَ، مَنْ خَافَ الْمَلَامَةَ فِي هَوَى مَنْ يُحِبُّهُ، فَلَيْسَ بِصَادِقٍ فِي الْمَحَبَّةِ:
وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتَ ... فَلَيْسَ لِي مُتَأَخَّرٌ عَنْكُمْ وَلَا مُتَقَدَّمُ
أَجِدُ الْمَلَامَةَ فِي هَوَاكَ لَذِيذَةً ... حُبًّا لِذِكْرِكَ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ
قَوْلُهُ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] ، يَعْنِي دَرَجَةَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ بِأَوْصَافِهِمِ الْمَذْكُورَةِ، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] : وَاسْعُ الْعَطَاءِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَضْلَ فَيَمْنَحُهُ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَيَمْنَعُهُ.