أَنْ يُرِيقَ خُمُورَهُمْ أَوْ يَكْسِرَ آلَاتِ الْمَلَاهِي الَّتِي لَهُمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ يُبْطِلَ بِيَدِهِ مَا أَمَرُوا بِهِ مِنَ الظُّلْمِ إِنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَكُلُّ هَذَا جَائِزٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ قِتَالِهِمْ، وَلَا مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمِ الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ، فَإِنَّ هَذَا أَكْثَرُ مَا يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُقْتَلَ الْآمِرُ وَحْدَهُ.
وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ، فَيُخْشَى مِنْهُ الْفِتَنُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. نَعَمْ، إِنْ خَشِيَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُلُوكِ أَنْ يُؤْذِيَ أَهْلَهُ أَوْ جِيرَانَهُ، لَمْ يَنْبَغِ لَهُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ حِينَئِذٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعَدِّي الْأَذَى إِلَى غَيْرِهِ، كَذَلِكَ قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ وَغَيْرُهُ، وَمَعَ هَذَا، فَمَتَى خَافَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ السَّيْفَ، أَوِ السَّوْطَ، أَوِ الْحَبْسَ، أَوِ الْقَيْدَ، أَوِ النَّفْيَ، أَوْ أَخْذَ الْمَالِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى، سَقَطَ أَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ، وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَتَعَرَّضُ لِلسُّلْطَانِ، فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُولٌ.
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ كَالْجِهَادِ، يَجِبُ عَلَى الْوَاحِدِ أَنْ يُصَابِرَ فِيهِ الِاثْنَيْنِ، وَيَحْرُمَ عَلَيْهِ الْفِرَارُ مِنْهُمَا، وَلَا يَجِبَ عَلَيْهِ مُصَابَرَةٌ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ خَافَ السَّبَّ، أَوْ سَمَاعَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْإِنْكَارُ بِذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِنِ احْتَمَلَ الْأَذَى، وَقَوِيَ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» أَنْ يُعَرِّضَهَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ، قَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ.