وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يُقِرُّ بِدَارٍ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى شَرَائِعِ الْمُرْسَلِينَ، وَهُمْ مُنْقَسِمُونَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٌ، وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: هُمُ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ وَقَفَ مَعَ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، فَأَخَذَهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا، وَاسْتَعْمَلَهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهَا، وَصَارَتِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ، لَهَا يَغْضَبُ، وَبِهَا يَرْضَى، وَلَهَا يُوَالِي، وَعَلَيْهَا يُعَادِي، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالزِّينَةِ وَالتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ، وَكُلُّهُمْ لَمْ يَعْرِفِ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا أَنَّهَا مَنْزِلُ سَفَرٍ يُتَزَوَّدُ مِنْهَا لِمَا بَعْدَهَا مِنْ دَارِ الْإِقَامَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ إِيمَانًا مُجْمَلًا، فَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ مُفَصَّلًا، وَلَا ذَاقَ مَا ذَاقَهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا هُوَ أُنْمُوذَجُ مَا ادُّخِرَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.

وَالْمُقْتَصِدُ مِنْهُمْ أَخَذَ الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهِهَا الْمُبَاحَةِ، وَأَدَّى وَاجِبَاتِهَا، وَأَمْسَكَ لِنَفَسِهِ الزَّائِدَ عَلَى الْوَاجِبِ، يَتَوَسَّعُ بِهِ فِي التَّمَتُّعِ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَهَؤُلَاءِ قَدِ اخْتُلِفَ فِي دُخُولِهِمْ فِي اسْمِ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ يُنْقَصُ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَدْرِ تَوَسُّعِهِمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَرِيمًا، خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ " الزُّهْدِ " بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَكَسَاهُ، فَخَرَجَ فَمَرَّ عَلَى أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَرَجُلٍ آخَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لَهُ: خُذْهَا مِنْ حَسَنَاتِكَ، وَقَالَ الْآخَرُ: خُذْهَا مِنْ طَيِّبَاتِكَ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015