وَلَمْ يَزْهَدْ فِي فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الزُّهْدِ بِذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمَا.
وَالثَّانِي: لَا يُسْتَحَقُّ اسْمُ الزُّهْدِ بِدُونِ الزُّهْدِ فِي فُضُولِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا زُهْدَ الْيَوْمَ لِفَقْدِ الْمُبَاحِ الْمَحْضِ، وَهُوَ قَوْلُ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ وَغَيْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. وَكَانَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ يَقُولُ: وَمَا قَدْرُ الدُّنْيَا حَتَّى يُمْدَحَ مَنْ زَهِدَ فِيهَا؟ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا فِي الزُّهْدِ بِالْعِرَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الزُّهْدُ فِي تَرْكِ لِقَاءِ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي تَرْكِ الشَّهَوَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي تَرْكِ الشِّبَعِ، وَكَلَامُهُمْ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ: وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الزُّهْدَ فِي تَرْكِ مَا يَشْغَلُكَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ حَسَنٌ، وَهُوَ يَجْمَعُ جَمِيعَ مَعَانِي الزُّهْدِ وَأَقْسَامِهِ وَأَنْوَاعِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الذَّمَّ الْوَارِدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلدُّنْيَا لَيْسَ رَاجِعًا إِلَى زَمَانِهَا الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، الْمُتَعَاقِبَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمَا خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شَكُورًا. وَيُرْوَى عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِزَانَتَانِ، فَانْظُرُوا مَا تَصْنَعُونَ فِيهِمَا. وَكَانَ يَقُولُ: اعْمَلُوا اللَّيْلَ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَالنَّهَارَ لِمَا خُلِقَ لَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ قَدْ دَخَلْتُ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، وَلَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا تَعْمَلُ فِيَّ، فَإِذَا انْقَضَى طُوِيَ، ثُمَّ يُخْتَمُ عَلَيْهِ، فَلَا يُفَكُّ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَفُضُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا لَيْلَةٍ إِلَّا تَقُولُ