مَثَلُنَا كَمَثَلِ نَاقِدِ الْعَيْنِ لَمْ تَقَعْ بِيَدِهِ الْعَيْنُ كُلُّهَا، فَإِذَا وَقَعَ بِيَدِهِ الدِّينَارُ يَعْلَمُ بِأَنَّهُ جَيِّدٌ، أَوْ أَنَّهُ رَدِيءٌ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَعْرِفَةُ الْحَدِيثِ إِلْهَامٌ. وَقَالَ: إِنْكَارُنَا الْحَدِيثَ عِنْدَ الْجُهَّالِ كِهَانَةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: مَثَلُ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ كَمَثَلِ فَصٍّ ثَمَنُهُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَآخَرَ مِثْلِهِ عَلَى لَوْنِهِ ثَمَنُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، قَالَ: وَكَمَا لَا يَتَهَيَّأُ لِلنَّاقِدِ أَنْ يُخْبِرَ بِسَبَبِ نَقْدِهِ، فَكَذَلِكَ نَحْنُ رُزِقْنَا عِلْمًا لَا يَتَهَيَّأُ لَنَا أَنَّ نُخْبِرَ كَيْفَ عَلِمْنَا بِأَنَّ هَذَا حَدِيثٌ كَذِبٌ، وَأَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ إِلَّا بِمَا نَعْرِفُهُ، قَالَ: وَتُعْرَفُ جَوْدَةُ الدِّينَارِ بِالْقِيَاسِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي الْحُمْرَةِ وَالصَّفَاءِ عُلِمَ أَنَّهُ مَغْشُوشٌ، وَيُعْلَمُ جِنْسُ الْجَوْهَرِ بِالْقِيَاسِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْمَائِيَّةِ وَالصَّلَابَةِ، عُلِمَ أَنَّهُ زُجَاجٌ، وَيُعْلَمُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ بِعَدَالَةِ نَاقِلِيهِ وَأَنْ يَكُونَ كَلَامًا يَصْلُحُ مِثْلُهُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ النُّبُوَّةِ، وَيُعْرَفُ سُقُمُهُ وَإِنْكَارُهُ بِتَفَرُّدِ مَنْ لَمْ تَصِحُّ عَدَالَتُهُ بِرِوَايَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَبِكُلِّ حَالٍ فَالْجَهَابِذَةُ النُّقَّادُ الْعَارِفُونَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ أَفْرَادٌ قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ جِدًّا، وَأَوَّلُ مَنِ اشْتُهِرَ فِي الْكَلَامِ فِي نَقْدِ الْحَدِيثِ ابْنُ سِيرِينَ، ثُمَّ خَلَفَهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَأَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ شُعْبَةُ، وَأَخَذَ عَنْ شُعْبَةَ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ، وَأَخَذَ عَنْهُمَا أَحْمَدُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَأَخَذَ عَنْهُمْ مِثْلُ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ.
وَكَانَ أَبُو زُرْعَةَ فِي زَمَانِهِ يَقُولُ: قَلَّ مَنْ يَفْهَمُ هَذَا، وَمَا أَعَزَّهُ إِذَا دَفَعْتَ هَذَا عَنْ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ، فَمَا أَقَلَّ مَنْ تَجِدُ مَنْ يُحْسِنُ هَذَا! وَلَمَّا مَاتَ أَبُو زُرْعَةَ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ذَهَبَ الَّذِي كَانَ يُحْسِنُ هَذَا - يَعْنِي أَبَا زُرْعَةَ - مَا بَقِيَ بِمِصْرَ وَلَا