إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ، فَهُوَ الْمُعَانُ، وَمَنْ خَذَلَهُ فَهُوَ الْمَخْذُولُ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى قَوْلِ: " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تَحَوُّلَ لِلْعَبْدِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، فَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ كُلِّهَا فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ مِنْ أَهْوَالِ الْبَرْزَخِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ حَقَّقَ الِاسْتِعَانَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَعَانَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ» .
وَمَنْ تَرَكَ الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ، وَاسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ، وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ فَصَارَ مَخْذُولًا. كَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَيَكِلُكَ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ: يَا رَبِّ عَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُكَ كَيْفَ يَرْجُو غَيْرَكَ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُكَ كَيْفَ يَسْتَعِينُ بِغَيْرِكَ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ» "، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " «رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» " هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَقَدُّمِ كِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ كُلِّهَا، وَالْفَرَاغِ مِنْهَا مِنْ أَمَدٍ بَعِيدٍ، فَإِنَّ الْكِتَابَ إِذَا فُرِغَ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَرُفِعَتِ الْأَقْلَامُ عَنْهُ، وَطَالَ عَهْدُهُ، فَقَدْ رُفِعَتْ عَنْهُ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ الَّتِي كُتِبَ بِهَا مِنْ مِدَادِهَا، وَجَفَّتِ الصَّحِيفَةُ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا بِالْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ بِهِ فِيهَا، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكِنَايَاتِ وَأَبْلَغِهَا.