ثُمَّ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. قِيلَ: لِمَ سُمُّوا أَصْحَابَ الْيَمِينِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَأَعْطُوا كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، فَقَرَءُوا سَيِّئَاتِهِمْ حَرْفًا حَرْفًا قَالُوا: يَا رَبَّنَا هَذِهِ سَيِّئَاتُنَا فَأَيْنَ حَسَنَاتُنَا؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ مَحَا اللَّهُ السَّيِّئَاتِ، وَجَعَلَهَا حَسَنَاتٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] [الْحَاقَّةِ: 19] فَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ قَدْ يَحْمِلُونَ أَحَادِيثَ مَحْوِ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ عَلَى مَحْوِ عُقُوبَاتِهَا دُونَ مَحْوِ كِتَابَتِهَا مِنَ الصُّحُفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» " هَذَا مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى، وَلَا تَتِمُّ التَّقْوَى إِلَّا بِهِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِلْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ الْقِيَامُ بِحَقِّ اللَّهِ دُونَ حُقُوقِ عِبَادِهِ، فَنَصَّ لَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِإِحْسَانِ الْعِشْرَةِ لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ مُعَلِّمًا لَهُمْ وَمُفَقِّهًا وَقَاضِيًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَالَقَةِ النَّاسِ بِخُلُقٍ حَسَنٍ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّا لَا حَاجَةَ لِلنَّاسِ بِهِ وَلَا يُخَالِطُهُمْ، وَكَثِيرًا مَا يَغْلِبُ عَلَى مَنْ يَعْتَنِي بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَالِانْعِكَافِ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَخَشْيَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِهْمَالِ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوِ التَّقْصِيرِ فِيهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ عَزِيزٌ جِدًّا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ إِلَّا الْكُمَّلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ عَزِيزَةٌ أَوْ مَعْدُومَةٌ: حُسْنُ الْوَجْهِ مَعَ الصِّيَانَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ الدِّيَانَةِ، وَحُسْنُ الْإِخَاءِ مَعَ الْأَمَانَةِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَلَسَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَالِيًا، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَالِي أَرَاكَ خَالِيًا؟ قَالَ: هَجَرْتُ النَّاسَ فِيكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: يَا دَاوُدُ أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى مَا تَسْتَبْقِي بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ، وَتَبْلُغُ فِيهِ رِضَايَ؟ خَالِقِ النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَاحْتَجِزِ الْإِيمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَقَدْ عَدَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مُخَالَقَةَ النَّاسِ بِخُلُقٍ حَسَنٍ مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى، بَلْ