يُصَلِّي جَالِسًا أَلْفَ رَكْعَةٍ، فَإِذَا صَلَّى الْعَصْرَ احْتَبَى وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولُ: عَجِبْتُ لِلْخَلِيقَةِ كَيْفَ أَنِسَتْ بِسِوَاكَ، بَلْ عَجِبْتُ لِلْخَلِيقَةِ كَيْفَ اسْتَنَارَتْ قُلُوبُهَا بِذِكْرِ سِوَاكَ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَصُومُ الدَّهْرَ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الْفُطُورِ، قَالَ: أَحُسُّ نَفْسِي تَخْرُجُ لِاشْتِغَالِي عَنِ الذِّكْرِ بِالْأَكْلِ. قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ: أَمَا تَسْتَوْحِشُ وَحْدَكَ؟ قَالَ: كَيْفَ أَسْتَوْحِشُ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي.
كَتَمْتُ اسْمَ الْحَبِيبِ مِنَ الْعِبَادِ ... وَرَدَّدْتُ الصَّبَابَةَ فِي فُؤَادِي
فَوَاشَوْقًا إِلَى بَلَدٍ خَلِيٍّ ... لَعَلِّي بَاسِمِ مَنْ أَهْوَى أُنَادِي
فَإِذَا قَوِيَ حَالُ الْمُحِبِّ وَمَعْرِفَتُهُ، لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ شَاغِلٌ، فَهُوَ بَيْنَ الْخَلْقِ بِجِسْمِهِ، وَقَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَصْفِهِمْ: صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَجْسَادٍ أَوَرَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ:
جِسْمِي مَعِي غَيْرَ أَنَّ الرُّوحَ عِنْدَكُمْ ... فَالْجِسْمُ فِي غُرْبَةٍ وَالرُّوحُ فِي وَطَنِ
وَقَالَ غَيْرُهُ:
وَلَقَدْ جَعَلْتُكَ فِي الْفُؤَادِ مُحَدِّثِي ... وَأَبَحْتُ جِسْمِي مَنْ أَرَادَ جُلُوسِي
فَالْجِسْمُ مِنِّي لِلْجَلِيسِ مُؤَانِسٌ ... وَحَبِيبُ قَلْبِي فِي الْفُؤَادِ أَنِيسِي
وَهَذِهِ كَانَتْ حَالُ الرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45] [الْأَنْفَالِ: 45] .