وَمِنْ هَذَا السِّيَاقِ يَظْهَرُ وَجْهُ ذِكْرِ السَّابِقِينِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ لَمَّا سَبَقَ الرَّكْبُ، وَتَخَلَّفَ بَعْضُهُمْ، نَبَّهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ السَّابِقِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُمُ الَّذِينَ يُدْمِنُونَ ذِكْرَ اللَّهِ، وَيُولَعُونَ بِهِ، فَإِنَّ الِاسْتِهْتَارَ بِالشَّيْءِ: هُوَ الْوُلُوعُ بِهِ وَالشَّغَفُ، حَتَّى لَا يَكَادَ يُفَارِقُ ذِكْرَهُ، وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ الْمُسْتَهْتَرُونَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ فِيهِ: «الَّذِينَ أُهْتِرُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ» وَفَسَّرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ الْهَتْرَ بِالسَّقْطِ فِي الْكَلَامِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَكَاذَبَانِ وَيَتَهَاتَرَانِ» . قَالَ: وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ عُمِّرَ وَخَرِفَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْمُفَرِّدِينَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَنِ انْفَرَدَ بِالْعُمْرِ عَنِ الْقَرْنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأَوْلَى فَالْمُرَادُ بِالْمُفَرِّدِينَ الْمُتَخَلِّينَ مِنَ النَّاسِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَذَا قَالَ، وَيُحْتَمَلُ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالِانْفِرَادِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الِانْفِرَادُ بِهَذَا الْعَمَلِ وَهُوَ كَثْرَةُ الذِّكْرِ دُونَ الِانْفِرَادِ الْحِسِّيِّ، إِمَّا عَنِ الْقَرْنِ أَوْ عَنِ الْمُخَالَطَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيْلَةَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ عِنْدَ قُرْبِ الْإِفَاضَةِ: لَيْسَ السَّابِقُ الْيَوْمَ مَنْ سَبَقَ بِعِيرُهُ، وَإِنَّمَا السَّابِقُ مَنْ غُفِرَ لَهُ. وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .