الْحَارِثِ عَنِ التَّوَكُّلِ، فَقَالَ: الْمُتَوَكِّلُ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ لِيُكْفَى، وَلَوْ حَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي قُلُوبِ الْمُتَوَكِّلَةِ، لَضَجُّوا إِلَى اللَّهِ بِالنَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ، وَلَكِنَّ الْمُتَوَكِّلَ يَحُلُّ بِقَلْبِهِ الْكِفَايَةُ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيُصَدِّقُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا ضَمِنَ. وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ التَّوَكُّلِ لَا يَأْتِي بِالتَّوَكُّلِ، وَيَجْعَلُهُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْكِفَايَةِ لَهُ مِنَ اللَّهِ بِالرِّزْقِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، لَكَانَ كَمَنْ أَتَى بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ لِاسْتِجْلَابِ الرِّزْقِ وَالْكِفَايَةِ بِهَا، وَهَذَا نَوْعُ نَقْصٍ فِي تَحْقِيقِ التَّوَكُّلِ. وَإِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ حَقِيقَةً مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ ضَمِنَ لِعَبْدِهِ رِزْقَهُ وَكِفَايَتَهُ، فَيُصَدِّقُ اللَّهَ فِيمَا ضَمِنَهُ، وَيَثِقُ بِقَلْبِهِ، وَيُحَقِّقُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ فِيمَا ضَمِنَهُ مِنَ الرِّزْقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَ التَّوَكُّلَ مَخْرَجَ الْأَسْبَابِ فِي اسْتِجْلَابِ الرِّزْقِ بِهِ، وَالرِّزْقُ مَقْسُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] [هُودٍ: 6] ، هَذَا مَعَ ضِعْفِ كَثِيرٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَعَجْزِهَا عَنِ السَّعْيِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: 60] [الْعَنْكَبُوتِ: 60] . فَمَا دَامَ الْعَبْدُ حَيًّا، فَرِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ يُيَسِّرُهُ اللَّهُ لَهُ بِكَسْبٍ وَبِغَيْرِ كَسْبٍ، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، فَقَدْ جَعَلَ التَّوَكُّلَ سَبَبًا وَكَسْبًا، وَمَنْ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ لِثِقَتِهِ بِضَمَانِهِ، فَقَدْ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ ثِقَةً بِهِ وَتَصْدِيقًا، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيِّ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: لَا تَكُونُوا بِالْمَضْمُونِ مُهْتَمِّينَ، فَتَكُونُوا لِلضَّامِنِ مُتَّهِمِينَ، وَبِرِزْقِهِ غَيْرَ رَاضِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، فَمَنْ وَكَلَ أُمُورَهُ إِلَى اللَّهِ وَرَضِيَ بِمَا يَقْضِيهِ لَهُ، وَيَخْتَارُهُ فَقَدْ حَقَّقَ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْحَسَنُ وَالْفُضَيْلُ وَغَيْرُهُمَا يُفَسِّرُونَ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ بِالرِّضَا.