عنها قالتْ: صنعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرًا فترخَّص فيه، فبلغَ ذلكَ ناسًا من أصحابهِ فكأنَّهُم كرهُوهُ وتنزَّهوا عنهُ، فبلغَه ذلكَ فقامَ خطيبًا فقالَ: ((ما بالُ رِجالٍ بلغَهُم عنِّي أمرٌ ترخَّصتُ فيهِ فكرِهوهُ وتنزَّهُوا عنهُ، فوالله لأنا أعلمُهم بالله وأشدُّهُمْ لهُ خشيَةً)) [متفقٌ عليه] .
أمَّا ما يُروى عن بعضِ السَّلفِ والعلَماءِ من كرَاهةِ تتبُّعِ الرُّخصِ وذَمِّ من يفعلُ ذلكَ، فليسَ كلامُهُم في رُخصِ الله ورسولهِ ممَّا جاءتْ بِهِ الشَّريعةُ، إنَّما الرُّخصُ الَّتِي يستفيدُها النَّاسُ من خلافِ الفُقهاءِ، فهذا العالمُ حرَّمَ كذا وهذا رخَّص فيه، فذمَّ العلماءُ من يبحثُ عن تلكَ الرُّخص ويعملُ بها أو يُشيعُهَا بين النَّاسِ ذَمًّا شديدًا، لأنهَا تصيرُ بفاعلِ ذلكَ إلى استحلالِ ما حرَّم الله ورسولُه، فالمجتهِدُ قدْ يقُولُ الرَّأيَ في الشَّيءِ يخالفُ حكمَ الله ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، لا بقصدٍ منهُ بلْ باجتهادِهِ ظنًّا منهُ أنَّهُ الصَّوابُ، فمن عمَدَ إلى رُخصَةِ هذا العالمِ أو ذاكَ ممَّا أخطأَوا فيهِ فتتبَّعَهُ فقدِ اجتمَعَ فيه الشَّرُّ كلُّهُ.
حكى إسماعيلُ بنُ إسحاقَ القاضِي المالكيُّ أنَّهُ دخَلَ على الخليفةِ المعتضِدِ بالله العبَّاسِيِّ، قال: فدَفعَ إليَّ كتابًا، فنظرتُ فيهِ، فإذا قدْ جُمعَ لهُ فيه الرُّخصُ من زَللِ العلماءِ، فقلتُ: مُصنِّفُ هذا زِنْدِيقٌ، فقالَ: ألمْ تصحَّ هذه الأحاديثُ؟ قلتُ: بلى، ولكن من أباحَ المسكِرَ لم يُبِح المُتْعةَ، ومن أباحَ المُتعَةَ لم يُبِحِ الغِناءَ، وما من عالمٍ إلاَّ ولهُ زّلَّةٌ، ومن أخذَ بكُلِّ زَللِ العُلماءِ ذهبَ دينُهُ، فأمرَ بالكتابِ فأُحْرِقَ [سِير أعلام النُّبلاء