وليسَ في هذا الَّذي علمتَ شيءٌ يذَمُّ لكنَّ لا يرتضيهِ الأئمَّةُ أنفسُهُم أن تُجعلَ آراؤُهم بمنزلَةِ النُّصوصِ، بلْ إنَّ النَّصَّ بضدِّهَا يقبلُ النَّسخَ والتَّأويلَ كما صرَّح بذلكَ بعضُ المتعصِّبينَ، أو أن يوجبَ الالتِزَامُ بها دون غيرهَا وُحرَّم النَّظرُ في أدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، أو أنها تكونُ سببًا في تفريقِ المسلمينَ فيُجعلُ في المسجدِ الحرامِ في فترَةٍ من الزَّمنِ أربعةُ محاريبَ، أو أن يُجعلَ من فُروعِ المذهبِ بُطلانُ الصَّلاةِ للحنفيِّ خلفَ الشَّافعيِّ، وأمُورٌ سِوَى ذلكَ من الزَّيغِ والضَّلالِ للحنفيِّ خلفَ الشَّافعيِّ، وأُمورٌ سوى ذلكَ من الزَّيغِ والضَّلالِ والخُروجِ عن الهُدَى والصِّراطِ المستقيمِ، ممَّا جعلَ كثيرًا من العلماءِ يُشنِّعونَ على التَّقليدِ والمذهبيَّةِ غايَةَ التَّشنيعِ، فجرَّأ هؤلاءِ بدروهِم كثيرًا من الجهَّالِ على الكلامِ في أحكامِ الدِّينِ بغيرِ علمٍ، وهكذَا الشَّأنُ في كلِّ مسلكٍ يُجاوزُ الاعتِدالَ.
فحاصلُ القولِ: أنَّ النَّاسَ كما تقدَّم صنفَانِ، عالمٌ مجتهدٌ، وَعَامِيٌّ مقلِّدٌ، فأمَّا المجتهدُ فقدْ امتنعَ عليهِ التَّقليدُ ما دامَ قادرًا على الاجتهادِ، وأمَّا المقلَّدُ فإنَّه مأمورٌ بسؤالِ من يقدرُ على سُؤالهِ من أهلِ العلمِ، ولا يتقيَّدُ بمذهبٍ من المذاهبِ الأربعَةِ، وإنَّما هو كما يقولُ بعضُ العلماءِ: (مذهبُهُ مَذهبُ من يسْتَفتِيهِ) ، وعلَى هذا أكثرُ أهلِ العلمِ.
لكنَّ التَّتلمُذَ لمن يقصِدُ تحصيلَ آلَةِ الاجتهادِ على مذهبِ من هذهِ المذاهبِ لأجلِ ما وقعَ من العِنايَةِ بها مشروعٌ صحيحٌ؛ نظرًا لما يُحقِّقُ من المصالحِ العظيمَةِ في مراتِبِ العلمِ، ولا ضرُورَةَ لتسميَّتِهِ تقليدًا،