من عليه بالعقل الكامل والرأي السديد، والكلام الفصل الذي هو من أحسن ما جرت به الأقلام وسطره الأنام، وهذا هو السعادة في الدنيا.
ثم ذكر سعادته في الآخرة فقال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] أي: لأجرا عظيما - كما يفيده التنكير - غير مقطوع، بل هو دائم متتابع مستمر، وذلك لما أسلفه صلى الله عليه وسلم من المقامات العالية في الدين والأخلاق الرفيعة؛ ولهذا قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فعلا صلى الله عليه وسلم بخلقه العظيم على جميع الخلق، وفاق الأولين والآخرين، وكان خلقه العظيم - كما فسرته به عائشة رضي الله عنها - هذا القرآن الكريم، وذلك نحو قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]
وما أشبهها من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، والآيات التي فيها الحث على كل خلق جميل، فكان أول الخلق امتثالا لها وسبقا إليها وإلى تكميلها، فكان له منها أكملها وأجلها وأعلاها، وهو في كل خصلة منها في الذروة العليا، فكان سهلا لينا قريبا من الناس، مجيبا لدعوة من دعاه، قاضيا لحاجة من استقضاه، جابرا لقلب من سأله، لا يحرمه ولا يرده خائبا، وإذا أراد أصحابه أمرا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن في ذلك محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسا إلا أتم عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ له في كلامه، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من