ومكثوا محاصرين المدينة عدة أيام، وحال الخندق بينهم وبين اصطدام الجيوش، وحصل مناوشات يسيرة بين أفراد من الخيل، وسبب الله عدة أسباب لانخذال المشركين، ثم انشمروا إلى ديارهم، فلما رجعوا خائبين لم ينالوا ما كانوا جازمين على حصوله، تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة الذين ظاهروا المشركين بقولهم وتشجيعهم على قصد المدينة، ومظاهرتهم الفعلية ونقضهم ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فحاصرهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وفي هذه الغزوة أنزل الله صدر سورة الأحزاب من قوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27]
ثم في سنة ست من الهجرة اعتمر صلى الله عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية، وكان البيت لا يُصدُّ عنه أحد، فعزم المشركون على صد النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولما بلغ الحديبية ورأى المشركين قد أخذتهم الحمية الجاهلية جازمين على القتال دخل معهم في صلح لحقن الدماء في بيت الله الحرام، ولما في ذلك من المصالح، وصار الصلح على أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم عامه هذا ولا يدخل البيت، ويكون القضاء من العام المقبل، وتضع الحرب أوزارها بينهم عشر سنين؛ فكره جمهور المسلمين هذا الصلح حين توهموا أن فيه غضاضة على المسلمين، ولم يطلعوا على ما فيه من المصالح الكثيرة، فرجع صلى الله عليه وسلم عامه ذلك، وقضى هذه العمرة في عام سبع من الهجرة، فأنزل الله في هذه القضية سورة الفتح بأكملها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]