أن الذئب أكل ابن الصغرى، وأن الذي سلم من الذئب ابنها، والمرأة الصغرى نكرت وقالت: بل الذئب أكل ابن الكبرى فتحاكما إلى داود، فلم ير لكل منهما بيِّنة إلا قولها، رأى أن يحكم به للكبرى اجتهادا ورحمة بها لكبرها، وأن الصغرى في مستقبل عمرها سيرزقها الله ولدا بدله، ثم رفعت القضية إلى سليمان فقال لهما: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فرضيت الكبرى، وقالت الصغرى: لما دار الأمر بين تلفه أو بقائه بيد غيرها وهو أهون الأمرين عليها: هو ابنها يا نبي الله، فعلم سليمان بهذا الأمر الطبيعي الذي هو من أقوى البينات أنه ليس ابنا للكبرى لكونها رضيت بشقه وإتلافه، وأن دعواها على الأخرى إنما حملها عليه الحسد، وأنه ابن الصغرى حين فزعت من شقه إلى التنازل عن دعواها، فقضى به سليمان للصغرى، ولا ريب أن استخراج الصواب في القضايا بالبينات والقرائن وشواهد الأحوال من الفهم الذي يخص الله به من يشاء.
فصل
في بعض الفوائد المستنبطة من قصة داود وسليمان عليهما السلام فمنها: أن الله يقص على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أخبار من قبله لتثبيت فؤاده وتطمين نفسه، ويذكر له من عباداتهم، وشدة صبرهم وإنابتهم ما يشوق إلى منافستهم، والتقرب إلى الله الذي تنافسوا في قربه والصبر على أذى قومه، ولهذا ذكر تعالى في أول سورة (ص) ما قاله المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم وما آذوه به، قال بعدها:
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]