ذاته ويصدر منه؟ وأي نقصان في عالم الله يزيد على هذا؟ بلغ الفلاسفة هذا المبلغ! وليتعجب العاقل من طائفة يتعمقون في المعقولات بزعمهم ثم ينتهي آخر نظرهم إلى أن رب الأرباب ومسبب الأسباب لا علم له أصلاً بما يجري في العالم. وأي فرق بينه وبين الميت إلا في علمه بنفسه؟ وأي كمال في علمه بنفسه مع جهله بغيره؟ وهذا مذهب تغني صورته في الافتضاح عن الإطناب والإيضاح.
الذات غير العلم بالذات، كما في الإنسان ثم يقال لهؤلاء: لم تتخلصوا عن الكثرة مع اقتحام هذه المخازي أيضاً، فإنا نقول: علمه بذاته عين ذاته أو غير ذاته. فإن قلتم: إنه غيره، فقد جاءت الكثرة، وإن قلتم: إنه عينه، فما الفصل بينكم وبين قائل: إن علم الإنسان بذاته عين ذاته؟ وهو حماقة إذ يعقل وجود ذاته في حالة هو فيها غافل عن ذاته ثم تزول غفلته ويتنبه لذاته فيكون شعوره بذاته غير ذاته لا محالة.
فإن قلتم: إن الإنسان قد يخلوا عن العلم بذاته فيطرى عليه فيكون غيره لا محالة.
فنقول: الغيرية لا تعرف بالطريان والمقارنة فإن عين الشيء لا يجوز أن يطرى على الشيء، وغير الشيء إذا قارن الشيء لم يصر هو هو ولم يخرج عن كونه غيراً. فبأن كان الأول لم يزل عالماً بذاته لا يدل على أن علمه بذاته عين ذاته، ويتسع الوهم لتقدير الذات ثم طريان الشعور. ولو كان هو الذات بعينه لما تصور هذا التوهم.
فإن قيل: ذاته عقل وعلم فليس له ذات ثم علم قائم به.
قلنا: الحماقة ظاهرة في هذا الكلام، فإن العلم صفة وعرض يستدعي موصوفاً، وقول القائل: هو في ذاته عقل وعلم، كقوله: هو قدرة وإرادة وهو قائم بنفسه. ولو قيل: به، فهو كقول القائل في سواد وبياض: إنه قائم بنفسه، وفي كمية وتربيع وتثليث: إنه قائم بنفسه. وكذى في كل الأعراض. وبالطريق الذي يستحيل أن تقوم صفات الأجسام بنفسها دون جسم هو غير الصفات،