ومنفعة أُخرى أَيضا وذلك أَن كل إِنسان قد تكون له أُمور يؤثرها ويهواها وأُمور لا يهواها، فمتى خوطب فيما لا يهواه بالكلي، المشترك بينه وبين ما يهواه، سارع إِلى قبول الكلي وذلك من أَجل أَن فيه حاجته فيتم الغرض من إِقناعه في ذلك الشيء؛ ولو أَتى به جزئيا لم يقبله ولم يقع له فيه إِقناع. مثال ذلك أَن من كان له جيران سوء أَو أَولاد فساق فقد يقبل قول القائل: إِنه ليس في العالم أَشر من الجيران ولا من الأَولاد.
ومن منافعه ما جرت العادة به من حذف القياس المتبت له لظهوره وأَنه مما يقدر أَن يأتى به كل أَحد من عند نفسه فيجعل السامع أَن يتصور في نفسه أَنه من ذوي التمييز والمعرفة بقياسه، فيكون ذلك سببا إِلى أَن يصدق به وينقاد له.
ومن منافعه أَيضا أَن الإِنسان إِذا خوطب في شيء ما ربما تلقى القول في ذلك بالرد، ويرى أَنه قبيح أَن يذعن لقول غيره، ولما طبعت عليه النفوس من النفوس واللجاج. فإِذا خوطب في كلي ذلك الشيءِ، بدل الشيءِ، كان أَمكن أَلا يرد القول فيه وأَن يقبله إِذ يخفى عليه ذلك الشيء الذي كان المقصود في التخاطب.
والمنفعة الخامسة وهي أَملك من هذه كلها وأَفضل أَن الرأي يجعل الكلام خلقيا. وإِنما يكون الكلام خلقيا بالرأي، لأَن الرأي إِنما هو قضية كلية في أُمور تؤثر أَو تجتنب.
والقضية الكلية في الأُمور أَنفسها أَو يتجنبها. فلذلك كان الرأي لذيذا عند السامع وعند المخاطب. وقد كان يكون الرأي نفسه خلقيا لو انفرد دون مادته، أَعني دون الأُمور المؤثرة والمجتنبة. فإِن الرأي نفسه يقود المرء إِلى أَن يتخلق بخلق من يرى ذلك الرأي، فكيف إِذا اقترن بالأُمور التي تقود الإِنسان إِلى أَن يتخلق بخلق من يؤثر تلك الأُمور، وهي، كما يقول أَرسطو، الأَشياء التي تركن إِليها المشيئة والضمير، يعني التي تركن إِليها الإِرادات والنفوس، وهي التي يحب الإِنسان أَن تكون له أَو فيه أَو يعرف بها ويشهر.
فقد قيل ما هو الرأي وكم أَنواعه وإِنها أَربعة ومِن أَي الأَشياء يعمل القول الرأيي وما نسبة الرأي إِلى الأُمور وإِنه يستعمل كليا وبالأَكثر وإِنه يستعمل على جهة الأَشياء الخلقية ويستعمل أَمثالا وقيل أَيضا في منافعه وفي مَنْ يستعمله.
وينبغي بعد هذا أَن نقول في مواد الضمائر، وبأَي أَحوال يجب أَن تستعمل، ثم يقال بعد هذا في المواضع. فأَما الضمير قياس ما فقد قيل فيما تقدم وبُين أَي نحو هو من القياس.
وأَما مقدمات الضمائر فينبغي أَن لا تكون من الأَشياءِ المشهورة جدا بخلاف ما عليه الأَمر في المقدمات الجدلية، فإِنها كلما كانت أَشهر هنالك كانت أَفضل، ولا أَيضا من الأٌمور الخفية التي تحتاج إِلى بيان، بل يجب أَن تكون من المتوسطات بين هذين الصنفين، وهي المقدمات التي ليست تكون بالفعل عند السامع ويقع له التصديق بها، وذلك أَن تلك لشهرتها فكأَن المتكلم بها لم يفدْ شيئا لم يكن عند السامع، والغامضة أَيضا تبعد أَذهان الجمهور عن قبولها. والذين لا أَدب لهم إِنما يتكلمون في المحافل ويسرعون إِلى النطق بأَمثال هذه المقدمات لأَنهم يظنون في المشهورة أَنها ليست عند السامعين وذلك لقلة حنكتهم ويظنون بما كان بينا عندهم أَنه بيَّن عند الجميع.
فهذه هي أَصناف المقدمات المذمومة في الضمائر.