والأَقاويل الانفعالية إِنما ينبغي أَن يستعمل فيها من الأَسماء الغريبة والموضوعة والمضاعفة، فهي لذلك أَوفق. وذلك أَن هذه الثلاثة الأَنواع من الأَلفاظ تخيل أَمراً زائدا على المقصود بها. فإِذا عبر عنها بالأَقاويل الانفعالية أَفادت فيها معنى زائداً على الأَمر في التحريك نحو الشيء الذي يبعث على الانفعال بما أَعطت في ذلك الشيء من التخييل. وينبغي للخطيب عندما يستعمل الأَقاويل الخلقية والانفعالية مع السامعين في فعل شيء ما أَو باجتنابه أَن يحكم عليهم أَنهم سيفعلون ذلك الشيء الذي يطلبون به مع تحريكهم لذلك الخلق أَو الانفعال الذي من شأنه أَن يحرك نحو ذلك الشيء، وذلك إِذا استدرجهم إِما إِلى فعل ذلك الشيء وحثهم عليه بالمدح بالأَقاويل الخلقية، أَو التحريك إِلى المحبة بالأَقاويل الانفعالية، وإِما لكفهم عنه وحثهم على اجتنابه بالذم بالخلقيات، أَو بالتحريك إِلى البغضة بالانفعاليات. مثال ذلك أَن الإِنسان إِذا أَراد أَن يحرك إِنسانا ما نحو فعل ما بالأَقاويل الخلقية. فإِن ذلك يمكن فيه بالمدح لمن شأنه أَن يصدر منه ذلك الفعل، مثل أَن يقول له: هذا إِنما يفعله ذوو الهمم الرفيعة والأَحساب الشريفة. فإِذا استعمل معه مثل هذا القول، فينبغي له أَن يزيد في ذلك: وأَنت ستفعله، فإِن همتك وشرفك يقتضي ذلك. ومثل هذا يفعل إِذا حركه بالأَقاويل الانفعالية، مثل أَن يقول له: إِنما يفعل هذا من يكتسب الذكر الجميل ومودة الناس وأَنه سيكتسب ذلك. ومثل هذا يكون في اجتناب الفعل بالذميات أَو المبغضيات. وهذا الفعل يسميه أَرسطو الإِنباء، ويقول إِنه ينبغي للخطيب أَن يستعمل الإِنباء، ويقول إِن السبب في وقوع الإِقناع به هو أَن الذي يخبر عنه أَنه سيكون إِنما يخبر عنه ومن شأنه أَنه سيكون. ويقول إِن هذا الفعل يشاكل الشعر جدا، لأَن الشاعر بمنزلة النباء، أَعني الذي يخبر بما يكون في المستقبل. وإِذا كان الإِنباء مع مزاح أَو هزل كان أَحرى أَن يفعل في السامع. ولما كان قد تكلم من أَحوال الأَلفاظ المركبة في كيفية تركيبها وترتيبها وطولها وقصرها، وأَعطى في كل واحد من هذه الوجوه الوصايا النافعة، شرع يتكلم في الأَزمنة التي بين أَجزاءِ القول الخطبي، فقال: إِن الكلام الخطبي ينبغي أَن يكون غير ذي وزن ولا عدد، يعني بقوله غير ذي وزن، أَلا تكون الأَزمنة التي بين أَجزاءِ المقاطع أَو الأَرجل أَزمنة يحدث عنها إِيقاع وزني، ويعني بقوله ولا عدد، أَلا تكون حروف الأَرجل والمقاطع متساوية. وإِنما يكون القول موزونا إِذا جمع هاتين الصفتين. والأَزمنة بين المقاطع والأَرجل ربما كانت سكنات ووقوفات على ما عليه الأَمر في أَوزان العرب، وربما كانت مركبة من سكنات ونبرات على ما عليه الأَمر في أَوزان سائر الأُمم. وإِنما لم يكن الوزن مقنعا في الأَقاويل الخطبية لثلاثة أَشياء: أَحدها: أَنه يقع في نفس السامعين أَن القول قد دخلته صناعة ما وحيلة حتى يظن أَن الإِقناع إِنما أَتى من قبل الصناعة لا من قبل الأَمر نفسه.
والثاني: أَن يظن به أَنه قصد به التعجيب والإِلذاذ واستفزاز السامعين بذلك، فيقع القول عندهم موقع ما قد غولطوا في الإِقناع به.