تلخيص الخطابه (صفحة 102)

فلهذا كان النظر في الأَلفاظ الخطبية ضروريا لصاحب المنطق، لكن ليس ينظر منها في الأَحوال الخاصة بأُمة أُمة، بل إِنما ينظر من ذلك في الأَحوال المشتركة بجميع الأُمم. ولهذا كان النظر فيها جزءاً من صناعة المنطق. وأَما النظر من ذلك فيما يخص أُمة أُمة فمن شأن الخطيب المنصوب في أُمة أُمة. وأَما ضرورة القول في الجزءِ الثالث، أَعني كم أَجزاء القول - المسمى خطبة - العظمى والصغرى، وترتيبها، ومماذا تؤلف، وكيف تؤلف، فأَمر بيَّن بنفسه.

وقبل أَن نقول في الأَلفاظ، فينبغي أَن نقول في الأُمور المستعملة مع الأَلفاظ على جهة المعونة في جودة الإِفهام، وإِيقاع التصديق، وبلوغ الغرض المقصود، وهي التي جرت عادة القدماء أَن يسموها: الأَخذ بالوجوه. وذلك أَن هذه الأَشياء لما كان من شأنها أَن تميل السامعين إِلى الإِصغاءِ والاستماع والإِقبال على المتكلم بالوجه وتفريغ النفس لما يورده، أَستعير لها هذا الاسم. وهذه الأَشياءُ صنفان: إِما أَشكال، وإِما أَصوات ونغم. والأَشكال، منها ما هي أَشكال البدن بأَسره، ومنها ما هي أَشكال لأَجزاء البدن كاليدين والوجه والرأس. وهذه هي أَكثر استعمالا عند المخاطبة. والأَشكال بالجملة يقصد بها أَحد أَمرين: إِما تفهيم المعنى وتخييله الموقع للتصديق، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال في أَحد خطبه: " بعثت أَنا والساعة كهاتين " وأَشار بإِصبعيه يقرنهما، وإِما تخييل لانفعال ما أَو خلق ما. وذلك إِما في المتكلم، أَعني أَن يتخيل فيه أَنه بذلك الانفعال أَو الخلق، مثل أَن يتكلم مصفر الوجه منفعلا بانفعال الخوف، إِذا أَراد أَن يخبر أَنه خائف، أَ، بتوءَدة توهم أَنه عاقل. وإِما في المخبر عنه، إِذا أَراد أَن يصوره بصورة الخائف أَو العاقل. وإِما أَن يوقع ذلك الانفعال في نفس السامع أَو ذلك الخلق حتى يستعد بذلك إِما نحو التصديق الواقع عن ذلك الانفعال أَو الخلق، وإِما نحو الفعل الصادر عنه.

وأَما النغم فإِنها تستعمل في القول الخطبي لوجوه: منها لتخييل الانفعالات أَو الخلق، وذلك أَيضا لثلاثة وجوه: أَحدها عندما يريد المتكلم أَن يخيل أًَنه بذلك الانفعال أَو الخلق عند السامعين، مثل أَنه إِذا أَراد أَن يخيل فيه الرحمة رقق صوته، وإِذا أَراد أَم يخيل فيه الغضب عظم صوته وكذلك في الأَخلاق. وإِنما كان ذلك كذلك، لأَن هذه الأَصوات توجد بالطبع صادرة عن الذين ينفعلون أَمثال هذه الانفعالات. والوجه الثاني: أَن يكون قصده تحريك السامعين نحو انفعال ما أَو خلق ما، إِما لأَن يصدر عنهم التصديق الحاصل عن ذلك الانفعال أَو الخلق أَو الفعل الصادر عنه.

والوجه الثالث عندما يقتص عن مخبرين عنهم بأَن يصفهم بذلك الانفعال أَو الخلق.

ومنها أَيضا أَنها تستعمل لضرب من الوزن في الكلام الخطبي على ما سيقال بعد. وهذا الضرب من النغم ضروري في أَوزان أَشعار من سلف من الأُمم ما عدا العرب. فإِن من سلف من الأُمم كانوا يزنون أَبياتهم بالنغم والوقفات، والعرب إِنما يزنونها بالوقفات فقط.

ومنها أَنها تستعمل أَشعارا في افتتاح القول وختمه ومواضع الوقف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015