تلبيس ابليس (صفحة 171)

فصل: ومن المتزهدين من قوته الانقطاع فِي مسجد أَوْ رباط أَوْ جبل فلذته علم الناس بانفراده وربما احتج لانقطاعه باني أخاف أن أرى فِي خروجي المنكرات وله فِي ذلك مقاصد منها الكبر واحتقار الناس ومنها أنه يخاف أن يقصروا فِي خدمته ومنها حفظ ناموسه ورياسته فان مخالطة الناس تذهب ذلك وَهُوَ يريد أن يبقى إطراؤه وذكره وربما كان مقصوده ستر عيوبه ومقابحه وجهله بالعلم فيرى هَذَا ويحب أن يزار ولا يزور ويفرح بمجيء الأمراء إليه واجتماع العوام عَلَى بابه وتقبيلهم يده فهو يترك عيادة المرضى وشهود الجنائز وبقول أصحابه أعذروا الشيخ فهذه عادته لا كانت عادة تخالف الشريعة ولو احتاج هَذَا الشخص إِلَى القوت ولم يكن عنده من يشتريه لَهُ صبر عَلَى الجوع لئلا يخرج لشراء ذلك بنفسه فيضيع جاهه لمشيه بين العوام ولو أنه خرج فاشترى حاجته لانقطعت عنه الشهرة ولكن فِي باطنه حفظ الناموس وَقَدْ كان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج إِلَى السوق ويشتري حاجته ويحملها بنفسه وكان أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ عنه يحمل الثياب عَلَى كتفه فيبيع ويشتري والحديث بإسناد عَنْ مُحَمَّد بْن القاسم قَالَ روي عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن حنظلة قَالَ مر عَبْد اللَّهِ بْن سلام وعلى رأسه حزمة حطب فَقَالَ لَهُ ناس مَا يحملك عَلَى هَذَا وَقَدْ أغناك اللَّه قَالَ أردت أن أدفع به الكبر وذلك إني سمعت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْكِبْرِ".

فصل: قَالَ المصنف: وهذا الذي ذكرته من الخروج لشراء الحاجة ونحوها من التبذل كان عادة السلف القدماء وَقَدْ تغيرت تلك العادة كَمَا تغيرت الأحوال والملابس فلا أرى للعالم أن يخرج الْيَوْم لشراء حاجته لأن ذلك يكشف نور العلم عند الجهلة وتعظيمه عندهم مشروع ومراعاة قلوبهم فِي مثل هَذَا يخرج إِلَى الرياء واستعمال مَا يوجب الهيبة فِي القلوب لا يمنع مِنْهُ وليس كل مَا كان فِي السلف مما لا يتغير به قلوب الناس يومئذ ينبغي أن يفعل الْيَوْم قال الأوزاعي كنا نضحك ونمزح فَإِذَا صرنا يقتدى بنا فلا أرى ذلك يسعنا وَقَدْ روينا عَنْ إبراهيم بْن أدهم أن أصحابه كانوا يوما يتمازحون فدق رجل الباب فأمرهم بالسكوت والسكون فقالوا لَهُ تعلمنا الرياء فَقَالَ إني أكره أن يعصى اللَّه فيكم.

قال المصنف: وإنما خاف قول الجهلة انظروا إِلَى هؤلاء الزهاد كيف يفعلون وذلك أن العوام لا يحتملون مثل هَذَا للمتعبدين.

فصل: ومن هؤلاء قوم لو سئل أحدهم أن يلبس اللين من ثوبه مَا فعل لئلا يتوكس جاهه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015