قد يسمع العامي ذم الدنيا فِي القرآن المجيد والأحاديث فيرى أن النجاة تركها ولا يدري مَا الدنيا المذمومة فيلبس عَلَيْهِ إبليس بأنك لا تنجو فِي الآخرة إلا بترك الدنيا فيخرج عَلَى وجهه إِلَى الجبال فيبعد عَن الجمعة والجماعة والعلم ويصير كالوحش ويخيل إليه أن هَذَا هو الزهد الحقيقي كيف لا وَقَدْ سمع عَنْ فلان أنه هام عَلَى وجهه وعن فلان أنه تعبد فِي جبل وربما كانت لَهُ عائلة فضاعت أَوْ والدة فبكت لفراقه وربما لم يعرف أركان الصلاة كَمَا ينبغي وربما كانت عَلَيْهِ مظالم لم يخرج منها وإنما يتمكن إبليس من التلبيس عَلَى هَذَا لقلة علمه ومن جهله رضاه عَنْ نفسه بما يعلم ولو أنه وفق لصحبة فقيه يفهم الحقائق لعرفه أن الدنيا لا تذم لذاتها وَكَيْفَ يذم مَا من اللَّه تعالى به وما هو ضرورة فِي بقاء الآدمي وسبب فِي إعانته عَلَى تحصيل العلم والعبادة من مطعم ومشرب وملبس ومسجد يصلي فيه وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حله أَوْ تناوله عَلَى وجه السرف لا عَلَى مقدار الحاجة ويصرف النفس فيه بمقتضى رعوناتها لا بإذن الشرع وأن الخروج إِلَى الجبال المنفردة منهي عنه فان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يبيت الرَّجُل وحده وأن التعرض لتركه الْجَمَاعَة والجمعة خسران لا ربح والبعد عَن العلم والعلماء يقوي سلطان الجهل وفراق الوالد والوالدة فِي مثل هَذَا عقوق والعقوق من الكبائر وأما من سمع عنه أنه خرج إِلَى جبل فأحوالهم تحتمل أنهم لم يكن لهم عيال ولا والد ولا والدة فخرجوا إِلَى مكان يتعبدون فيه مجتمعين ومن لم يحتمل حالهم وجها صحيحا فهم عَلَى الخطأ من كانوا وَقَدْ قَالَ بعض السلف خرجنا إِلَى جبل نتعبد فجاءنا سفيان الثوري فردنا.
فصل: ومن تلبيسه عَلَى الزهاد إعراضهم عَن العلم شغلا بالزهد فقد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير وبيان ذلك أن الزاهد لا يتعدى نفعه عتبة بابه والعالم نفعه متعد وكم قد رد إِلَى الصواب من متعبد.