لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي النتائج في المستقبل، فحينما حج صلى الله عليه وسلم ومعه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: (أريد أن أصلي في الكعبة -أي: داخلها- فأخذ بيدها إلى حجر إسماعيل، وقال: صلي هاهنا فإنه من البيت) ، فلما صلت سألت: كيف يكون من البيت وهو خارج عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن قومك حينما أرادوا بناء الكعبة قصرت بهم النفقة، فاحتجروا هذا الجزء وأقاموا البيت على قواعد إبراهيم من القسم الثاني، وقصروا البناء على هذا الحد على قدر نفقتهم، ثم حجروه بهذا الجدار) ، ولهذا سمي الحجر حجراً لكونه محجوراً داخل هذا السور، ولذا تسمى الغرفة في داخل البيت السفلي: حجرة، والعلية تسمى غرفة لارتفاعها.
فهنا سألته عائشة: لماذا لم يدخلوه في البيت؟ فبين لها السبب، وهو ناحية مادية، أنهم قصرت بهم النفقة، لا لعجز ولكنهم كانت يحتاجون إلى عملة صعبة بالنسبة إليهم، وهي المال الحلال الذي لم يدخله شبهة؛ لأنهم كانوا يجمعون إلى مكاسبهم حلوان الكاهن، ومهر البغي، والربا، وهم يعلمون بأن هذا ممنوع، لكن كانوا يدخلونه في كسبهم، فلما أرادوا بناء الكعبة قالوا: هذا بيت الله، ولا يمكن أن نبني بيت الله بمال فيه شبهة، وهذا مبدأ كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) .
فهل تبني بيت الله بما حرم الله؟! لا يجوز هذا تسرق ثوب وتذهب تطوف بالبيت وأنت سارق لهذا الثوب؟! تسرق ثوب جارك ويعزمك في وليمة فتأتي وأنت لابس للثوب الذي سرقته من عنده فهذا تحدٍ.
قالت: (فما بالهم جعلوا باب البيت مرتفعاً؟ قال: ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، من أعطاهم أجرهم أدخلوه، ومن لم يعطهم ولم يرضهم ركلوه بأرجلهم فسقط، ولولا حداثة قومك بكفر -وهذا محل الشاهد- لهدمت البيت، ولبنيته على قواعد إبراهيم -يعني: أدخلت فيه الحجر- ولجعلت له بابين، باب للداخل وباب للخارج) ، وقد حدث هذا التنظيم في المسجد النبوي، ووضع الباب الذي يسمى باب النساء، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما كثر الناس وكن النسوة يأتين لصلاة الجماعة عند رسول الله، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر الرجال أن لا يتعجلوا بالانصراف حتى ينصرف النساء قبلهم، ويذهبن إلى بيوتهن، فلما كثر الأمر وطال على الرجال الانتظار، قال: (لو جعلتم لهن باباً) ، فجعل لهن باب النساء، وكان في مؤخرة المسجد بالنسبة لحدوده من جهة الشمال، فكان هذا الباب الذي إلى الآن يسمى باب النساء بجوار باب جبريل عليه السلام.
فهنا خصص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء باباً يدخلن ويخرجن منه حتى لا يزاحمن الرجال في بقية الأبواب، وهناك يقول صلى الله عليه وسلم: (لبنيت البيت على قواعد إبراهيم، ولسويت بابه بالأرض، وجعلت له بابين؛ باب للداخل وباب للخارج) ، ولو أن الناس اليوم في كل تلك الأبواب خصصوا للدخول فتحات وفتحات للخروج ما تزاحم الناس على الأبواب، وقبل سنوات حصل تزاحم عند باب السلام، وتسبب في وفيات.
إذاً: التنظيم من حيث الدخول والخروج مبدأ إسلامي، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويهمنا في هذه القضية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يكون البيت على قواعد إبراهيم، وأن تكون الأبواب مساوية للأرض حتى يتمكن كل من أراد الدخول أن يدخل، ويكون هناك بابان للداخل وللخارج لكن.
ما الذي منعه أن يفعل ذلك؟ ترك ما يرغب فيه مخافة ما سيحدث من الفتنة: (إن قومك حديثو عهد بكفر) فهم لازالوا جدد، فإذا هدمت الكعبة وغيرت على ما كانت عليه، قالوا: هدم وغير وبدل، فيحصل في نفوسهم بعض الشيء، فترك هذا العمل.
ولما جاء ابن الزبير وبويع في مكة لما وقعت فتنة عثمان رضي الله عنهم أجمعين كان قد سمع من خالته عائشة رضي الله عنها وصف رسول الله للبيت، فقام وعمل ذلك، وهدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم، وأدخل الحجر، وجعل له بابين مساويين للأرض، ولما جاء الحجاج، وقتل ابن الزبير، وكان ما كان وراعى أن يعيد البيت على ما كان عليه من قبل، فبناه على ما كان عليه قبل الإسلام، وأخرج الحجر على ما كان، ولما زادت حجارة البيت لاختصاره، حار ما يفعل به، وهي حجارة مختصة بالبيت لا يستطيع أن يبيعها لأنها وقف، ولا يسمح لأحد باستعمالها، فأرسل إلى أسماء أم عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عن الجميع رسولاً، وقال: اذهب فسلها ماذا نفعل فيما بقي من الحجارة؟ انظروا إلى الاعتراف والإقرار لأهل الفضل ولو كانوا أعداء! قتل وصلب ولدها، ثم يرسل إليها يستشيرها، وحينئذٍ ما خانته المشورة، بل أشارت عليه بالصواب، ولكن بعبارة أرجفت الرسول وخاف أن ينقلها، فقالت: (ليضعها في فيه) فرجع الرسول وليس في ذاك الذكاء كـ الحجاج، فما استطاع أن ينطق، فقال الحجاج: قل ما قالت ولا عليك، فقال: قالت ما لا أستطيع أن أنطق به، قال: انطق به ولا عليك، قال تقول: يضعه في فيه، قال: صدقت هو خير مكان لها هي تعني: في فم البيت؛ لأن البيت جعل له باب مرتفع، وأصبح من الداخل مجوفاً إلى ارتفاع -عتبة الباب الأعلى- ما كان عليه من قبل، فأخذ الحجارة الزائدة وأدخلها في الكعبة، ورصها حتى سوات الباب الذي وضعه وأعاده على ما كان وهو ما عليه اليوم.
ولما جاء الرشيد إلى مالك وحصلت مناقشته في الموطأ وما يتبع ذلك، سأل الرشيد مالكاً واستنصحه واستشاره: إني أريد أن أعيد البيت على بناية ابن الزبير، تنفيذاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا أيضاً يأتي نظر مالك إمام دار الهجرة ويصدق عليه قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] ، والبصيرة دون البصر؛ لأن البصر يرى المحسوسات المواجهة، والبصيرة ترى ما لا يرى المحسوس، وتستنتج بالفراسة نتائج الأمر لو حصل ماذا يكون.
قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، قال: ولم وأنا أنفذ رغبة رسول الله، وأعيد ما فعله ابن الزبير، قال: لا تفعل، إني أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك.
الحجاج لماذا أعاد الكعبة على ما كانت عليه؟ لأنه شكل ووضع مات عنه رسول الله ويجب أن يبقى على ما كان عليه، ولم يلتفت إلى الوصف الذي جاء، وهنا مالك يقول: أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك.
يأتي واحد بعدك يقول: لا.
يجب أن تعاد الكعبة على ما كانت عليه في حياة رسول الله، ويعيدها، ويأتي الآخر فيخشى أن تتزحزح الكعبة عن مكانها، ولهذا منع مالك الرشيد أن يعيدها على الوصف الذي أراده رسول الله، اتقاء للشر، وهذا ما يسمى في علم الأصول: سد الذرائع: (ترك ما لا بأس فيه مخافة ما فيه بأس) .