أثر الآية في الواقع العلمي

هذا النظم الذي بين أيدينا، والخطاب الذي توجه للأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، في كل حين وعصر وزمان ومكان، {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} ، فاسق معروف بالفسق، أو فاسق بهذا النبأ الواحد الذي جاء به، إذا ظننتم فيه خلف الوعد أو عدم الصدق تبينوا وتثبتوا، أما إذا كان معلوماً لديكم من قبل بالعدالة وصدق الحديث فلا حاجة إلى هذا التثبت، وتقبلون روايته خبره، وهذا التحفظ والاحتياط إنما هو إبقاءً على وحدة الأمة، وإخوة الإيمان التي نادهاهم الله بها من أول السورة إلى هذا المكان، {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} ، ولو أن خالداً ذهب ووصل إلى القوم ولم يتثبت من إسلامهم وبيتهم ليلاً، ثم تبين بعد ذلك أنهم مسلمون فكما بين سبحانه وتعالى: {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ؛ لأنكم لم تتثبتوا.

وإلى هنا يتفق العلماء أو القضاة على أن سبب تحمل المسئولية أو سبب إثبات الجناية إنما هو يدور على أمرين فقط: التفريط والتعدي؛ فكل حادثة جنائية لا يدان فيها إنسان إلا بأحد هذين الأمرين: التفريط، أو التعدي.

فالتفريط مثاله: يقود سيارة وما فيها مكابح فهذا تفريط منه؛ لأنه يقودها وهو لا يستطيع أن يتحكم فيها، فكذلك إذا رمى هدفاً وأصاب إنساناً، فقد فرط بأنه لم يتبين ما وراء هذا الهدف، فيقولون: أسباب المسئولية الجنائية أحد أمرين: التفريط، والتعدي، فإذا أخذ إنسان خبر فاسق وبناء عليه كان مفرطاً في أنه لم يتبين من صدق خبره، {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} .

وهنا يقول العلماء في مباحث القضاء: خطاب الوضع وخطاب التكليف؛ خطاب التكليف مثل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات:6] ليس فيه كلفة عمل.

وخطاب الوضع: ما هو شرط وبيان لخطاب التكليف فيما كلفوا به، مثل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، هذا أمر بقيام الصلاة لأوقات معينة مرتبطة بالشمس، وهذا خطاب وضع، فيقولون: خطاب الوضع ما كان شرطاً أو سبباً أو مانعاً يستوي فيه العامد والجاهل.

فإذا أصابوا قوماً بجهالة فقد يعذرون من جانب الإثم ولكن لا يعذرون من جانب حقوق البشر، فلو أصابوا لزمتهم ديات من أصابوهم؛ ولأن خطاب الوضع كما يقال: يستوي فيه العالم والجاهل، حتى الدواب، فلو أن إنساناً أتلف مالاً لغيره نسياناً أو بجهالة أو خطأ فإنه ملزم بضمان ما أتلفه، ولو أن طفلاً صغيراً أتلف شيئاً لغيره فوليه ملزماً بما أتلف الصبي، ولا يقال: هذا غير مكلف وليس مسئولاً، فحقوق الآدميين يستوي فيها العالم والجاهل، لو بهيمة لإنسان انطلقت ورعت زرع آخرين، فصاحبها مكلف وملزم بضمان ما أتلفت، ونعلم قضية ناقة البراء بن عازب، وقضية داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث.

إذاً: في هذه الحالة تصبحوا على ما فعلتم نادمين؛ لأنكم ستتحملون نتيجة تفريطكم في التثبت من خبر الفاسق، وترتكبون بناءً عليه ما يضر بالآخرين؛ فتندمون على ما أوقعتم بغيركم وما لزمكم من ضمان فيما وقع عليهم.

والحمد لله رب العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015