أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:1-5] .
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فقد تقدم أيها الإخوة الكرام الكلام على هذه السورة الكريمة في مدة زيارة الزائرين في موسم الحج، ولم نكمل الحديث عنها، وفي بداية هذه السورة الكريمة وفي استئناف الحديث عنها نجمل ما تقدم ليرتبط الماضي بالحاضر: تقدم في أول الحديث عنها تنبيه على مدى ربط سور القرآن بعضها ببعض، وهذا جانب عظيم في التفسير الكريم؛ إذ نلحظ جميعاً بيسر وسهولة ربط ما بين سورة الفاتحة وسورة البقرة، وكذلك قصار السور، يظهر ذلك الربط لقصر السور ولوحدة الموضوع فيها.
فتجد في سورة الفاتحة بعد المقدمة بحمد الله وتنزيهه وتمجيده وتكريمه، والاعتراف له بالربوبية وإفراده بالعبودية والاستعانة يأتي قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، وهذا أعظم طلب يطلبه العبد لأنه يتعلق بأعظم مطلوب؛ لما فيه من سعادة الدنيا والآخرة، وتأتي سورة البقرة بعدها بعد مقدمة قصيرة (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ) {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] .
فكأنه الجواب على
Q {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، فيقول تعالى: هذا الكتاب هو الهدى الذي تسألونه فالزموه.
وكذلك نجد الربط بين سورة الحجرات وما قبلها وهي سورة الفتح؛ حيث تتحدث أواخر سورة الفتح على ما وقع في صلح الحديبية، فلما أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينه وبين المشركين في المفاوضة على الرجوع والتحلل في مكانهم ثم العودة بعمرة أخرى من عام قابل، وعظم ذلك وشق على أصحابه أنهم لم يدخلوا مكة، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد أعطى وعداً حتى قال: (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) .
وكان المولى سبحانه وتعالى أراد بهذا الصلح الفتح المبين، وذلك لما سأل عمر رضي الله تعالى عنه أبا بكر عما جاء في الاتفاقية مما ظاهره الحيف والهضم للحق، وإملاء القوي على الضعيف، حيث جاء في الصحيفة: إذا أتانا منكم أحد مرتد عن دينه فلا نرده عليكم، وإذا أتاكم أحد مسلم بدون إذن أهله رددتموه علينا.
فقال عمر لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا عمر! إلزم غرزه إنه رسول الله.
والكل يعلم أنه رسول الله، ولكن المراد بذلك لازم الخبر، فقد عمر يعلم أنه رسول الله، وقد آمن به رسولاً من عند الله، ولكن يريد أبو بكر مقتضى ذلك: وهو أنه يتبع الله فيما يوحي به إليه فالزمه.
فذهب عمر إلى رسول الله، وعرض عليه ما عرض على أبي بكر، وسمع من رسول الله مثل الذي سمع من أبي بكر: (يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً) ، يقول عمر: فوالله ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق أكفر عن تلك الكلمة؛ لأنني تقدمت بين يدي الله ورسوله باقتراح ما كان لي أن أتقدم به.
ولما أمرهم بالتحلل وحلق الشعر ونحر الهدي، توانوا وكأنهم يتطلعون إلى حل آخر، ودخل صلى الله عليه وسلم على زوجه أم سلمة مغضباً، قالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: (وما لي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا أُتبع، قالت: يا رسول الله! قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس) .
فما إن كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا وتسابق القوم بالنحر والحلق، وأيقنوا أنه ليس هناك حل آخر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أمامهم.
فتأتي آخر السورة: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح:27] ، لأنهم قالوا: ألم يعدنا رسول الله أنا نأتي البيت؟ فقال لهم أبو بكر: نعم، ونحن آتوه، وهل قال لكم: هذه السنة؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ستأتونه.
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] ، أي: لا مطرودين عنه كهذه السنة {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} [الفتح:27] ، أي: من دون ذلك الدخول الآمن {فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27] ، ألا وهو صلح الحديبية.
ونزلت السورة الكريمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عودته من الحديبية ليلاً، وكان عمر يمشي في آخر القوم مخافة أن ينزل فيه قرآناً مما جادل فيه رسول الله، فلم يلبث أن سمع صارخاً: يا ابن الخطاب! أجب رسول الله! ففزع لذلك وظن أنه قد نزل فيه ما يخشى، فلما أتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] ، وقرأ عليه سورة الفتح، فقال عمر: يا رسول الله! أوفتح هو؟ قال: نعم) .
وفي عُرف العالم اليوم: أنه إذا كان هناك نزاع بين دولتين ثم توصلتا إلى المفاهمة، أو الجلوس على مائدة المفاوضات؛ كان ذلك شبه اعتراف من كل منهما بالجانب الآخر، وهنا كان صلح الحديبية بعد ست سنوات فقط من خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً مختفياً في الغار يسري ليلاً ويختفي نهاراً، فيرجع اليوم يريد مكة فيصل إلى حدودها، وتجلس معه صناديد قريش يفاوضونه على العودة على أن يخلوا له مكة في العام القادم، فيأتي ويعتمر آمناً ويرجع مطمئناً.
إنه فتح عظيم، ويقدر علماء التاريخ قيمة هذا الفتح: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه من المسلمين في صلح الحديبية نحو الألف، فلما وقعت الهدنة، ووقع هذا الصلح والاتفاق، ساح المسلمون والمشركون في الجزيرة، فما لقي مسلم مشركاً عاقلاً يحدثه عن الإسلام إلا دخل فيه، فانتقل وانتشر المشركون في ديار المسلمين، وانتقل وانتشر المسلمون في ديار المشركين، ثم وقع بعد ذلك بسنتين فقط فتح مكة، وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة بعشرة آلاف مقاتل.
مرت تسع عشرة سنة من الوحي، وثلاث عشرة سنة منها في مكة، وست سنوات في المدينة؛ كانت حصيلتها ألف مقاتل، وبعد هذا الصلح تكون الحصيلة عشرة آلاف مقاتل.
وفعلاً كان فتحاً مبيناً، فنزلت خاتمة سورة الفتح تبين للمسلمين حقيقة الموقف، ولماذا كف الله أيديهم عنهم: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] ، أي: أن الله كف أيدي المسلمين عن دخول مكة مقاتلين ولو دخلوا لنصرهم الله، إلا أن في مكة من هو مسلم يخفي إسلامه، فلو دخلوا لقتلوا المسلم مع المشرك وهم لا يعلمون، فرجع المسلمون ونزلت السورة وفيها: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27] .
وهنا تأتي افتتاحية سورة الحجرات، وكأنها تتمة أو تعليق أو تنبيه أو تصحيح لما كان من أصحاب رسول الله في تلك الوقعة -أي: في صلح الحديبية- فيبين المولى تعالى ما ينبغي من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إرشاداً لهم ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:1] ، إلزاماً لهم بمقتضى ما آمنوا به وهو أن يقبلوا كل ما جاء به وأن يكونوا تبعاً لله ولرسوله بمقتضى إيمانهم.