لما اشتد الأمر على المسلمين في مكة، وجلس صلى الله عليه وسلم بالحجر، ومعه بعض أصحابه، قالوا: يا رسول الله! ادع الله لنا أن ينصرنا على المشركين، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تسير الضعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله والذئب على الغنم) ، كيف يحصل ذلك وهم يعذبون ومضطهدون؟ إنه اليقين بالله.
ونأتي إلى حدث كان قبل ذلك، حينما جاءوا إلى عمه ليكلمه في أن يترك ذلك، وقالوا: إن كان يريد مالاً جمعنا له، وإن كان يريد ملكاً نصبناه علينا، وإن كان يريد زواجاً زوجناه أجمل من في العرب، وإن كان وإن كان إلى آخره، فقال: (فرغت يا عم؟ قال: بلى، قال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى تذهب هذه عن هذه) ، سبحان الله! قال ذلك وهو أحوج ما يكون إلى عمه، ومع ذلك يتحدى ولو جاءوا بالشمس والقمر، لا بأموالهم ولا بنسائهم ولا بجاههم وملكهم، لن ينظر لذلك قط حتى يتم الله هذا الأمر، وعلى هذا فعلاً كان على يقين من ربه سبحانه.
وليلة الهجرة حينما يأتي عشرة شبان بسيوفهم على بابه، ويأتيه جبريل ويخبره، فيخرج يقيناً بالله مستخفاً بهؤلاء، ولم يكتف بالخروج من تحت أيديهم، بل أخذ التراب من تحت أقدامهم ووضعه على رءوسهم، ويقرأ قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، سبحان الله العظيم!! يحجب الله رسوله عن أبصارهم، عشرون عيناً تنظر فلم تره! ثم يذهب ويصل إلى الغار، ويأتي الطلب وراء ذلك، ويقول الصديق: يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا، فماذا كان رده صلى الله عليه وسلم؟ كان منطق اليقين يتجسم في كلامه حتى يملأ الغار أمناً وطمأنينة: (ما بالك باثنين الله ثالثهما) ، ومن كان الله ثالثهما هل يخافا؟! لا والله، آمناً مطمئناً، وكتب السيرة تذكر أحداثاً عجيبة في هذا الغار المبارك.