والشجاعة، وأيضًا لما وردوا الجحفة .. بعث الخفاف الكناني إلى أبي جهل - وهو صديق له - بهدايا مع ابن له، فلما أتاه .. قال: إنَّ أبي يقول: إن شئت أن أمدك بالرجال .. أمددتك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي .. فعلت. فقال أبو جهل: قل لأبيك: جزاك الله خيرًا، إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ... فوالله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس .. فوالله إن بنا على الناس لقوةً، والله ما نرجع عن قتال محمَّد حتى نرد بدرًا، فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، وننحر الجزور في بدر، فيثني الناس علينا بالشجاعة والسماحة، وقد بدَّلهَم الله شرب الخمر بشرب كأس الموت، وبدل ضرب الجواري على نحو الدفوف بنوح النائحات، وبدل نحر الجزور بنحر رقابهم, حيث قتل منهم سبعون، وأسر سبعون.
واعلم: أن النِّعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد، فإن صرفها إلى مرضاته تعالى وعرف أنها من الله تعالى .. فذاك هو الشكر، وإن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمغالبة بالكثرة على أهل الزمان .. فذاك هو البطر. والرياء: إظهار الجميل ليراه الناس، مع إبطان القبيح. والفرق بين الرياء والنفاق: أن النفاق: إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرياء: إظهار الطاعة مع إبطان المعصية.
والمعنى: عليكم أيها المؤمنون أن تمتثلوا ما أمرتم به، وتنتهوا عمَّا نهيتهم عنه، ولا تكونوا كأعدائكم المشركين الذين خرجوا من ديارهم في مكة وغيرها من الأماكن التي استنفرهم منها أبو سفيان بطرين بما أوتوا من قوةٍ ونعم لا يستحقونها، مرائين الناس بها ليعجبوا بها ويثنوا عليهم بالغنى والقوة والشجاعة. وظاهر النظم الكريم أن قوله: {بَطَرًا} متعلق بخرجوا، وهو لا يوافق الواقع؛ لأن خروجهم كان لغرضٍ مهم، وهو المنع عن عيرهم، والحق: أن يكون علة لمعلول محذوف، تقديره: خرجوا من ديارهم ليمنعوا عيرهم، ولم يرجعوا بعد نجاتها بطرًا، فهو علة لهذا المقدر، وهو قولنا: لم يرجعوا، وعلة الخروج: منعهم عن عيرهم كما قدرنا، كما ذكره في "الفتوحات".