واليا ومقبلا إليهم شاردا منهزما منهم {إِلَّا مُتَحَرِّفًا}؛ أي: إلا رجلا منعطفا مائلا لمكان رآه أحوج إليه {لِقِتالٍ} فيه، أو لضرب من ضروبه رآه أنكى بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه على اتباعه، حتى إذا انفرد عن أنصاره، كر عليه فقتله {أَوْ مُتَحَيِّزًا}؛ أي: منتقلا منضما {إِلى فِئَةٍ}؛ أي: إلى جماعة أخرى من المؤمنين، في جهة غير الجهة التي كان فيها، ليشد أزرهم، وينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم، فصاروا أحوج إليهم ممن كان معهم؛ أي: من فعل ذلك التولي {فَقَدْ باءَ}؛ أي: رجع عن قتاله حالة كونه ملتبسا {بِغَضَبٍ} عظيم {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى {وَمَأْواهُ} الذي يأوي إليه في الآخرة أي منزله ومسكنه في الآخرة {جَهَنَّمُ} دار العقاب {وَبِئْسَ}؛ أي: قبح {الْمَصِيرُ}؛ أي: المرجع هي. وانتصاب {مُتَحَرِّفًا} {أَوْ مُتَحَيِّزًا} على الاستثناء، أو على الحال كما سيأتي، والمعنى: ومن ينهزم ويفر من الزحف فقد رجع بغضب كائن من الله، إلا المتحرف والمتحيز، وهذا مخصوص بما إذا لم يزد الكفار على الضعف، ذاك أن المنهزم أراد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه الهلاك، فعوقب بجعل عاقبته دار الهلاك، والعذاب الدائم، وجوزي بضد غرضه.
وفي الآية دلالة على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي، وجاء التصريح بذلك في صحيح الأحاديث، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا «اجتنبوا السبع الموبقات» - المهلكات - قالوا يا رسول الله وما هي؟: قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وقد خصص بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين، قال الشافعي: إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم، لم أحب لهم أن يولوا، ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة.