توصيفها بالجري بعدما جعل الجنات الموصوفة جزاء، إشارة إلى مدحهم بالمواظبة على الطاعة، كأنه تعالى يقول: طاعتك كانت جارية ما دمت حيًا، على ما قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} فلذلك كانت أنهار كرمي جارية إلى الأبد {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} متنعمين بفنون النعم الجسمانية والروحانية، لا يخرجون منها ولا يظعنون عنها، بل هم دائمون في نعيمها مستمرون في لذاتها، وهو حال، وذو الحال وعامله كلاهما مضمران يدل عليه جزاؤهم، والتقدير: يجزون بها خالدين فيها، وقوله: {أَبَدًا} ظرف زمان مستقر لما يستقبل من الزمان مؤكد للخلود؛ أي: لا يموتون فيها ولا يخرجون منها كما مر آنفًا، وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} كلام مستأنف مبين لما يتفضل به عليهم زيادة على ما ذُكر من أجزية أعمالهم؛ أي: استئناف إخبار، كأنه قيل: تُزاد لهم، أو استئناف دعاء من ربهم، فلذا فُصل وقد يُجعل خبرًا بعد خبر وحالًا بتقدير قد.
والمعنى: قبل أعمالهم وجازاهم عليها، قال ابن الشيخ: لما كان المكلف مخلوقًا من جسد وروح، وأنه اجتهد بهما في طاعة ربه .. اقتضت الحكمة أن يجزيه بما يتنعم ويستريح به كل واحد منهما، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة، وجنة الروح هي رضا الرب جل جلاله {وَرَضُوا عَنْهُ} حيث بلغوا من المطالب قاصيتها، وملكوا من المآرب ناصيتها، وأبيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لا سيما أنهم أعطوا لقاء الرب الذي هو المقصد الأقصى، والمعنى؛ أي: فرحوا بما أعطاهم من أنواع الكرامة.
وحاصل المعنى (?): أي هؤلاء يجزيهم ربهم بجنات يقيمون فيها أبدًا، وفيها من اللذائذ ما هو أكمل وأوفر من لذات الدنيا، وعلينا أن نؤمن بالجنة، ولا نبحث عن حقيقتها, ولا أين موضعها، فإن علم ذلك عند ربنا لا يعلمه إلا هو، فهو من علم الغيب الذي استأثر بعلمه، ثم ذكر أسباب هذا الجزاء، فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}؛ أي: إنهم حازوا رضا الله تعالى بالتزام حدود شريعته، فحمدوا مغبة أعمالهم، ونالوا ما يرضيهم في دنياهم وآخرتهم، قال الراغب: رضا العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد هو أن يراه مؤتمرًا بأمره