ذلك من أهل الكتاب، واعتقدوا صحته بما شاهدوا من نصرتهم على أسلافهم، كما يشهد به أنهم كانوا يسألونهم عن رسول الله هل هو المذكور في كتبهم، وكانوا يُغرونهم بتغيير نعوته، وانفكاك الشيء من الشيء أن يزايله بعد التحامه، كالعظم إذا انفك من مفصله، وفيه إشارة إلى كمال وكادة وعدهم؛ أي: لم يكونوا مفارقين للوعد المذكور، بل كانوا مجمعين عليه عازمين على إنجازه. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} والحجة الواضحة التي كانوا قد جعلوا إتيانها ميقاتًا لاجتماع الكلمة، والاتفاق على الحق، فلما أتتهم جعلوا إتيانها ميقاتًا للانفكاك والافتراق وإخلاف الوعد فكفروا بها، والتعبير عن إتيانهم بالمضارع باعتبار حال المحكي لا الحكاية. أو المعنى؛ أي: لم يكن الذين جحدوا رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنكروا نبوته من اليهود والنصارى والمشركين بمفارقين لكفرهم، تاركين لما هم عليه من الغفلة عن الحق، والوقوف عند ما كان عليه آباؤهم، ولو كانوا لا يعقلون شيئًا حتى يأتيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيحدث مجيئه رجة فيما رسخ من عقائدهم، وتمكن من عاداتهم، ومن ثم أخذوا يحتجون لعنادهم بأن ما جاء به هو ما كان بين أيديهم، وليس بمستحسن أن يُتبع، والبقاء على ما هم عليه أجدر وأجمل، والسير على نهج الآباء أشهى إلى النفس وأسلم.
وعبارة "الخازن" هنا: قوله عز وجل: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني: اليهود والنصارى {وَالْمُشْرِكِينَ}؛ أي: ومن المشركين وهم: عبدة الأوثان، وذلك أن الكفار كانوا جنسين:
أحدهما: أهل كتاب، وسبب كفرهم ما أحدثوه في دينهم، أما اليهود فقدلهم: عزير ابن الله وتشبيههم الله سبحانه بخلقه، وأما النصارى فقولهم: المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وغير ذلك.
والثاني: المشركون أهل الأوثان الذين لا ينتسبون إلى كتاب الله، فذكر الله جنسين في قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} {مُنْفَكِّينَ}؛ أي: منتهين عن كفرهم وشركهم، وقيل معناه: زائلين {حَتَّى تَأْتِيَهُم}؛ أي: حتى أتتهم، لفظه مضارع ومعناه الماضي {الْبَيِّنَةُ}؛ أي: الحجة الواضحة يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أتاهم بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وشركهم، وما كانوا عليه من الجاهلية، ودعاهم إلى الإيمان فآمنوا، فانقذهم الله تعالى من الجهالة والضلالة، ولم يكونوا منفصلين عن كفرهم قبل بعثه إليهم، والآية فيمن آمن من الفريقين.