اتصال الضمير للتخفيف، ومعنى صيغة الماضي أنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدرناه في الأزل.
ثم إن الإنزال (?) يُستعمل في الدفعي، والقرآن لم ينزل جملة واحدة، بل أُنزل منجمًا مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة، وهذه السورة من جملة ما أنزل، وجوابه أن المراد أن جبريل نزل به جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العنة في السماء الدنيا، وأملاه على السفرة؛ أي: الملائكة الكاتبين في تلك السماء، ثم كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - منجمًا على حَسَب المصالح، وكان ابتداء تنزيله أيضًا في مثل تلك الليلة.
وفيه إشارة (?) إلى أن بيت العزة أشرف المقامات السماوية بعد اللوح المحفوظ لنزول القرآن منه إليه، ولذلك قيل بفضل السماء الأولى على أخواتها؛ لأنها مقر الوحي الرباني، وقيل: لشرف المكان بالمكين، وكل منهما وجه، فإن السلطان إنما ينزل على أنزه مكان، ولو فرضنا نزوله على مسبخة .. لكفى نزوله هناك شرفًا لها، فالمكان الشريف يزداد شرفًا بالمكين الشريف، كما سبق في سورة البلد.
ففي نزول القرآن بالتدريج إشارة إلى تعظيم الجانب المحمدي، كما تدخل الهدايا شيئًا بعد شيء على أيدي الخدام تعظيمًا للمُهدى إليه بعد التسوية بينه وبين موسى عليهما السلام بإنزاله جملة إلى بيت العزة، وفي التدريج أيضًا تسهيل للحفظ وتثبيت لفؤاده، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، وكلام الله المنزل قسمان: القرآن، والخبر القدسي؛ لأن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى، لأن جبريل أداها بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى؛ لأن جبريل أداها باللفظ.
والسر في ذلك التعبد بلفظه، والإعجاز به فإنه لا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه من الإعجاز لفظًا، ومن الأسرار معنى، فكيف يقوم لفظ الغير ومعناه مقام حرف القرآن.