{يَعْلَمُ}؛ أي: والحال أنّه تعالى وحده اللطيف؛ أي: العالم بدقائق الأشياء يرى أثر النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء، {الْخَبِيرُ} أي: العالم ببواطنها. قال الفاشاني: هو المحيط ببواطن ما خلق وظواهره، أي: هو الذي لطف علمه بما في القلوب، الخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية.
والحاصل: أنّ الاستفهام للإنكار لا للنفي في قوله: {أَلَا يَعْلَمُ}؛ أي: كيف لا يعلم السرّ والجهر من أوجد بحكمته وواسع علمه وعظيم قدرته جميع الأشياء، وهو النافذ علمه إلى ما ظهر منها وما بطن، وكأنّه سبحانه يقول: ألا يعلم سركم وجهركم من يعلم الدقائق والخفايا جملها وتفاصيلها؟!.
فإن قلت: (?) ذكر الخبير بعد اللطيف تكرار.
قلت: لا تكرار فيه، فإنه كما قال الغزالي رحمه الله: إنّما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها وما لطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح على سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطف، ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلّا لله تعالى، والخبير هو الذي لا يعزب عنه الأخبار الباطنة، فلا يجري في الملك والملكوت شيءٌ، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن، ولا تضطرب نفس ولا تطمئن، إلا ويكون عنده خبرها، وهو بمعنى العلم، لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة يسمى خبرةً، ويسمى صاحبها خبيرًا.
واعلم: أنه سبحانه وتعالى لطيف بعباده، ومن لطفه بهم أنه يوصل إليهم ما يحتاجون إليه بسهولة، فمن قوته رغيف، لو تفكر فيه يعلم كم عين سهرت فيه من أول الأمر حتى تم وصلح للأكل، من الحارث والباذر للبذر والحاصد والدائس والمذري والطاحن والعاجن والخابز، ويتشعب من ذلك الآلات التي تتوقف عليها هذه الأعمال من الأخشاب والحجارة والحديد والحبال والدّواب بحيث لا تكاد تنحصر، وهكذا كل شيء ينعم به على عبده من مطعوم ومشروب وملبوس فيه