خبث نفوسهم، وسوء استعدادهم، فلا تعمر قلوبهم بالإيمان، ولا تخبت لله في أيِّ زمان،
8 - ثم ضرب لهم مثلًا، فقال: {إِنَّا} بمقتضى قهرنا وجلالنا {جَعَلْنَا}؛ أي: خلقنا، أو صيرنا، {فِي أَعْنَاقِهِمْ}؛ أي: في أعناق أكثر أهل مكة، جمع: عنق، {أَغْلَالًا} ثقالًا عظيمة، جمع: غل، وهو ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، سواء كان من الحديد أو غيره، وقال القهستاني: الغل: الطوق من حديد، الجامع لليد إلى العنق، المانع من تحرك الرأس. اهـ. والفاء (?) في قوله: {فَهِيَ} للنتيجة، أو التعقيب؛ أي: فالأغلال منتهية، {إِلَى الْأَذْقَانِ} جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين؛ أي: فالأغلال لعظمها وضخامتها منتهية إلى أذقانهم، بحيث لا يتمكَّن المغلول معها من تحرك الرأس والالتفات، ووجه وصول الغل إلى الذقن، هو إما كونه غلظيًا عريضًا يملأ ما بين الصدر والذقن، فلا جرم يصل إلى الذقن، ويرفع الرأس إلى فوق، وإما كون طوق الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق، بحيث يكون في ملتقى طرفين تحت الذقن حلقة يدخل فيها رأس العمود الواصل بين ذلك الطوق وبين قيد اليد خارجًا عن الحلقة إلى الذقن، فلا يخلِّيه يحرِّك رأسه. {فَهُمْ}؛ أي: أكثر أهل مكة بسبب ذلك {مُقْمَحُونَ}؛ أي: رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم، فإن الإقماح رفع الرأس إلى فوق مع غض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه، وقمح قموحًا عند رفع رأسه عند الحوض بعد الشرب؛ إما لارتوائه، أو لبرودة الماء، أو لكراهة طعمه، قال بعضهم: لفظ الآية - وإن كان ماضيًا - لكنه إشارة إلى ما يفعل بهم في الآخرة، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} الآية، ولهذا قال الفقهاء: كره جعل الغل في عنق عبده؛ لأنه عقوبة أهل النار، قال الفقيه: إن في زماننا جرت العادة بذلك إذا خيف من الإباق، بخلاف التقييد، فإنه غير مكروه؛ لأنه سنة المسلمين في المتمردين.
هذا والجمهور (?) على أن الآية تمثيل لحال الأكثر في تصميمهم على الكفر، وعدم امتناعهم منه، وعدم التفاتهم إلى الحق، وعدم انعطاف أعناقهم، نحوه: بحال الذين غلت أعناقهم، فوصلت الأغلال إلى أذقانهم، وبقوا رافعين رؤوسهم، غاضين أبصارهم، فهم أيضًا لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا