وقالَ غَيْرُ مالكٍ: عَلَى القَارِنِ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ (?).
والذي قَالَهُ مَالِكٌ هُوَ الصَّحِيحُ، لأَنَّ الهَدْيَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَى القَارِنِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ جَعَلَ عَمَلَ الحَجِّ والعُمْرَةِ وَاحِدًا، وكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْشِيءَ مِنْ بَلَدِه العُمْرَةَ سَفَرًا وَعَمَلَا مِنْ طَوَافٍ وسَعْيٍّ، وَلِلْحَجّ طَوَافًا آخَرَ وعَمَلًا آخَرَ مِنْ طَوَافٍ وَسَعْي، فَلَمَّا جَمَعَ العَمَلَيْنِ جَمِيعًا حِينَ قَرَنَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ في طَوَافٍ واحد وَسَعْيٍّ وَاحِدٍ وَجَبَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ الهَدْيُ.
* قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ: "أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ" [1336] , يَعْنِي قُرَيْشًا، "حِينَ بَنَوُا الكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - "، إلى قَوْلهِ في آخِرِ الحَدِيثِ: "لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمَكِ بالكُفْرِ". قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمَّا هَمَّتْ قُرَيْشٌ في الجَاهِلِيّهِ بِبنَاءِ البَيْتِ وتَجْدِيدِه جَمَعُوا لِذَلِكَ مَالًا مِنْ أَطْيَبِ مَكَاسِبِهِم، فَلَمْ يَفِ ذَلِكَ المَالُ بينَاءِ البَيْتِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ بَنَاهُ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَاقْتُصِرَ عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وكَانَتْ صِفَةُ بِنَاءِ إبْرَاهِيمَ للبَيْتِ مُدَوَّرًا مِنْ وَرَائِهِ، وكَانَ لَهُ رُكْنَانِ وَهُمَا اليَمَانِيَّانِ، فَلَمَّا بَنتَهُ قُرَيْشٌ في الجَاهِلِيَّةِ جَعَلُوا لَهُ أَرْبَعَةَ أَرْكَانَ، وحَجَزُوا الحِجْرَ مِنْ وَرَائِهِ، إرَادَةً مِنْهُم اسْتِكْمَالَ الطَّوَافِ بالبَيْتِ، فَبَقِيَ البَيْتُ كَذَلِكَ إلى أيَّامِ ابنِ الزُّبَيْرِ، فَهَدَمَهُ وبَنَاهُ علَى صِفَةِ بُنْيَانِ إبْرَاهِيمَ لَهُ، فَلَمَّا غَلَبَ الحَجَّاجُ عَلَى مَكَّةَ وقَتَلَ ابنَ الزُّبَيْرِ هَدَمَ البَيْتَ ثُمَّ بَنَاهُ عَلَى حَسَبِ بُنْيَانِ قُرَيْشٍ في الجَاهِليَّهِ، وجَعَلَ الحِجْرَ مِنْ وَرَائِهِ، فَهُوَ الآنَ مِنْ بُنْيَانِ الحَجَّاجِ.
قالَ: وإنَّمَا مَنَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بُنْيَانِهِ مَا اتَّقَاهُ مِنْ إنكارِ قُرَيْشٍ لِذَلِكَ، فقالَ لِعَائِشَةَ: "لَوْلَا حِدْثَانُ قَؤمكِ بالكُفْرِ لَنقَضْتُ بُنْيَانَ الكَعْبَةِ، وبَنَيْتُ البَيْتَ عَلَى حَسَبِ مَا كانَ إبْرَاهِيمُ بَنَاهُ".
[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: في هَذا مِنَ الفِقْهِ: مُدَارَاةُ مَنْ يُتَّقَى عَلَيْهِ تَغَيُّرِ حَالِهِ في دِينِه، والرِّفْقُ بالجَاهِلِ قال لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ في مَعْصِيةِ اللهِ.