ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ مِنْ حُرُوبِ الْخَوَارِجِ ثُمَّ الشِّيعَةِ، وَآخِرُهَا الِاقْتِتَالُ بَيْنَ الْمَصْرِيِّينَ وَالْوَهَّابِيِّينَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
وَمَنْ أَرَادَ تَمَامَ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كُتُبِ التَّارِيخِ لَا سِيِّمَا تَارِيخِ بَغْدَادَ وَحَادِثَةِ خُرُوجِ التَّتَرِ الَّتِي كَانَتْ أَوَّلَ حَادِثَةٍ زَلْزَلَتْ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَرْضِ، وَدَمَّرَتْ بِلَادَهُمْ تَدْمِيرًا، فَقَدْ كَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَابْنُ الْعَلْقَمِيِّ الشِّيعِيُّ الْوَزِيرُ هُوَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى بَغْدَادَ سَنَةَ 656هـ فَخَرَّبُوهَا وَقَتَلُوا فِيمَنْ قَتَلُوا الشُّرَفَاءَ شِيعَةً وَغَيْرَ شِيعَةٍ، وَوَبَّخَهُ هُولَاكُو عَلَى خِيَانَتِهِ فَمَاتَ غَمًّا، وَالْفِتَنُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَتْلُ الْأَوَّلِينَ لِلْآخِرِينَ فِي جَمِيعِ بِلَادِ أَفْرِيقِيَّةَ أَوَّلَ سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّقُونَهُمْ بِالنَّارِ وَيَنْهَبُونَ دُورَهُمْ، وَتَارِيخُ بَغْدَادَ مَمْلُوءٌ بِالْفِتَنِ بَيْنَ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، وَبَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَكَانَ أَشَدُّ الْخِلَافِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ لِذَلِكَ، وَلَا يَنْسَيَنَّ الرَّاجِعُ إِلَى التَّارِيخِ الْفِتْنَةَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، إِذْ تَقَلَّدَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ خَرَابِ مَرْوَ عَاصِمَةِ خُرَاسَانَ.
أَقُولُ: إِنَّ الْوُجُودَ قَدْ كَانَ وَمَا زَالَ مُصَدِّقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ مِنْ إِهْلَاكِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ لِلْأُمَمِ وَإِفْسَادِهِ لِلدِّينِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ كِتَابُ اللهِ هَذَا الْمَرَضَ الِاجْتِمَاعِيَّ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَ عِلَاجَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ تَحْكِيمُ اللهِ - تَعَالَى - فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَرَدُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ فِي الْأُمُورِ الْحَرْبِيَّةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [4: 83] وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلَاجَ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ ; لِأَنَّ الِاسْتِبْدَادَ ذَهَبَ بِأُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مَعَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ رَأْيٌ وَلَا مَشُورَةٌ، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ، مَعَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَمِيرٌ وَلَا سُلْطَانٌ، مَا كَانَ هُنَاكَ إِلَّا أَهْلُ الرَّأْيِ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ وُجُوهَ الْمَصْلَحَةِ مَعَ فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَّةِ رِجَالٌ أَهْلُ بَصِيرَةٍ وَرَأْيٍ فِي سِيَاسَتِهَا وَمَصَالِحِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَقُدْرَةٍ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ يُرَدُّ إِلَيْهِمْ أَمْرُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ فِي عُرْفِ الْإِسْلَامِ أَهْلُ الشُّورَى، وَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَمِنْ أَحْكَامِهِمْ أَنَّ بَيْعَةَ الْخِلَافَةِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً إِلَّا إِذَا كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الْخَلِيفَةَ وَيُبَايِعُونَهُ بِرِضَاهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ عِنْدَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى بِنُوَّابِ الْأُمَّةِ.