الْأَرْضِ بِأَهْلِ الْإِصْلَاحِ فِيهَا لَغَلَبَ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَبَغَوْا عَلَى الصَّالِحِينَ وَأَوْقَعُوا بِهِمْ حَتَّى يَكُونَ لَهُمُ السُّلْطَانُ وَحْدَهُمْ، فَتَفْسُدَ الْأَرْضُ بِفَسَادِهِمْ، فَكَانَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى الْعَالَمَيْنِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ أَنْ أَذِنَ لِأَهْلِ دِينِهِ الْحَقِّ الْمُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ بِقِتَالِ الْمُفْسِدِينَ فِيهَا مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْبُغَاةِ الْمُعْتَدِينَ، فَأَهْلُ الْحَقِّ حَرْبٌ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَاللهُ نَاصِرُهُمْ مَا نَصَرُوا الْحَقَّ وَأَرَادُوا الْإِصْلَاحَ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّى هَذَا دَفْعًا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، إِذْ كَانَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَسَمَّاهُ دِفَاعًا فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ الْمُصْلِحِينَ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ الْمُفْسِدِينَ يُقَاوِمُ الْآخَرَ وَيُقَاتِلُهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِيتَاءَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْقِصَصِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ فَقَالَ: (تِلْكَ آيَاتُ اللهِ) يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَقِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي بَعْدَهَا (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) فِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا يَقُولُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُخَالِفٌ لِهَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إِذْ لَوْلَا الرِّسَالَةُ لَمَا عَرَفْتَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ وَأَنْتَ لَمْ تَكُنْ فِي أَزْمِنَةِ وُقُوعِهَا وَلَا تَعَلَّمْتَ شَيْئًا مِنَ التَّارِيخِ، وَلَوْ تَعَلَّمْتَهُ لَجِئْتَ بِهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَصَّاصِينَ.
وَقَدْ قَرَّرَ تَعَالَى هَذِهِ الْحُجَّةَ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى فِي مَدْيَنَ، وَذِكْرِ نُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى
مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (28: 44، 45) .
(السُّنَنُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ وَالْأُمَمِ وَالِاسْتِقْلَالِ)
أَذْكُرُ مَا يَظْهَرُ لِي مِنَ السُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي آيَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مُفَصَّلَةً مَعْدُودَةً لَعَلَّهَا تُوعَى وَتُحْفَظُ فَلَا تُنْسَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
(السُّنَّةُ الْأُولَى) أَنَّ الْأُمَمَ إِذَا اعْتُدِيَ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا وَأَوْقَعَ الْأَعْدَاءُ بِهَا فَهَضَمُوا حُقُوقَهَا تَتَنَبَّهُ مَشَاعِرُهَا لِدَفْعِ الضَّيْمِ وَتُفَكِّرُ فِي سَبِيلِهِ، فَتَعْلَمُ أَنَّهَا الْوَحْدَةُ الَّتِي يُمَثِّلُهَا الزَّعِيمُ الْعَادِلُ وَالْقَائِدُ الْبَاسِلُ، فَتَتَوَجَّهُ إِلَى طَلَبِهِ حَتَّى تَجِدَهُ كَمَا وَقَعَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تَنْكِيلِ أَهْلِ فِلَسْطِينَ بِهِمْ.
(الثَّانِيَةُ) أَنَّ شُعُورَ الْأُمَّةِ بِوُجُوبِ حِفْظِ حُقُوقِهَا وَصِيَانَةِ اسْتِقْلَالِهَا إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَكَمَالِهِ فِي خَوَاصِّهَا، فَمَتَى كَثُرَ هَؤُلَاءِ الْخَوَاصُّ فِي أُمَّةٍ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الرَّئِيسَ الَّذِي يُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ إِسْنَادِ طَلَبِ الْمُلْكِ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ شُيُوخُهُمْ وَأَهْلُ الْفَضْلِ فِيهِمْ.