تفسير المنار (صفحة 751)

كَوْنِهَا أُمَّةً حَقِيقِيَّةً مُتَكَافِلَةً بِالْمَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تَحْفَظُ وَحْدَتَهَا، وَطَفِقَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ ((الْمُتَمَدِّنِينَ)) الَّذِينَ قَطَعُوا رَوَابِطَهَا بِأَيْدِيهمْ، يُفَكِّرُونَ فِي جَعْلِ الرَّابِطَةِ الْوَطَنِيَّةِ لِأَهْلِ كُلِّ قُطْرٍ بَدَلًا مِنَ الرَّابِطَةِ الْمِلِّيَّةِ الْجَامِعَةِ لِأَهْلِ الْأَقْطَارِ الْكَثِيرَةِ، فَلَمْ يُفْلِحُوا، وَلَكِنَّ أَثَرَ كَلَامِهِمْ أَرْدَأَ التَّأْثِيرَ فِي مِصْرَ ; فَالْأُمَّةُ الْآنَ فِي دَوْرِ الِانْسِلَاخِ عَمَّا كَانَتْ بِهِ أُمَّةً بِسِيرَةِ سَلَفِهَا

الصَّالِحِينَ، فَتَنَكَّبَهَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (19: 59) وَهَذَا الِانْسِلَاخُ هُوَ الْغَيُّ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي الدُّنْيَا.

وَأَمَّا أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْقُرَى وَالْمَزَارِعِ فَاسْتِحْلَالُ جَمَاهِيرِ الْفَلَّاحِينَ لِإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ عَمَلًا لَا قَوْلًا، وَذَلِكَ بِاعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى زَرْعِ بَعْضٍ بِالْقَلْعِ قَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَبِالسَّرِقَةِ بَعْدَهَا، وَعَلَى بَهَائِمِهِ بِالْقَتْلِ بِالسُّمِّ أَوِ السِّلَاحِ، بَلْ بِاعْتِدَائِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ وَالْقَتْلِ، حَتَّى أَعْيَا ذَلِكَ الْحُكُومَةَ عَلَى اهْتِمَامِهَا بِأَمْرِهِمْ، فَبِلَادُ الْأَرْيَافِ الْمِصْرِيَّةِ لَا أَمْنَ فِيهَا عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ بِتَأْمِينِ الْحُكُومَةِ; لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالْبَوَادِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حُكَّامٌ، لَا يَعْتَمِدُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِ نَفْسِهِ وَعُصْبَتِهِ فِي حِفْظِ نَفْسِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَلَوْ حَافَظَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ عَلَى الصَّلَوَاتِ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى لَانْتَهَوْا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ بِالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ كَمَا يَقُولُ مُخْتَارُ بَاشَا الْغَازِيُّ، كَالْبُولِيسِ (الْمُحْتَسِبِ) الْمُلَازِمِ يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، وَأَنَّى يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا وَمِنْهُمُ الَّذِي كَفَرَ بِاللهِ تَقْلِيدًا، وَمِنْهُمُ الَّذِي آمَنَ تَقْلِيدًا بِمَا وَجَدَ عَلَيْهِ آبَاءَهُ، وَهُوَ أَنَّ مَرْضَاةَ اللهِ تَعَالَى بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ وَالْفَوْزِ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ عِنْدَهُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِينَ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّطُونَ لِمَنْ يُحْتَفَلُ بِمَوَالِدِهِمْ، أَوْ يُسَيَّبُ لَهُمُ السَّوَائِبُ مِنَ الْبَقَرِ وَغَيْرِ الْبَقَرِ، وَيُقَدَّمُ لِأَضْرِحَتِهِمُ الْهَدَايَا وَالنُّذُورُ، وَمِنْهُمُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ كَيْفِيَّةَ أَقْوَالِ الصَّلَاةِ وَأَعْمَالِهَا الْبَدَنِيَّةِ يُؤَدُّونَهَا وَهُمْ عَنِ اللهِ سَاهُونَ، يُرَاءُونَ النَّاسَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) (107: 4) وَإِنَّمَا الْمُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَاةِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (23: 1، 2) إِلَخْ الْآيَاتِ.

الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ الْفُضْلَى يَنْتَهِي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بُيُوتِ الْقِمَارِ وَمَعَاهِدِ اللهْوِ وَالْفِسْقِ.

الْمُحَافِظَ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ الْمَاعُونَ، بَلْ يَبْذُلُ مَعُونَتَهُ وَرِفْدَهُ لِمَنْ يَرَاهُ مُسْتَحِقًّا لَهُمَا.

الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا يُخْلِفُ وَلَا يَلْوِي فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَرَضَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوِ الْتَزَمَهُ بِرًّا بِغَيْرِهِ، كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةِ.

الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ

الصَّلَاةِ لَا يُضِيعُ حُقُوقَ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَلَا حُقُوقَ أَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ، وَلَا حُقُوقَ مُعَامِلِيهِ وَإِخْوَانِهِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015