(أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وَهُوَ لَمْ يُرَاوِدْنِي، بَلِ اسْتَعْصَمَ وَأَعْرَضَ عَنِّي (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فِيمَا اتَّهَمَنِي بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَحَمَلَهُ أَدَبُهُ الْأَعْلَى وَوَفَاؤُهُ الْأَسْمَى لِمَنْ أَكْرَمَ مَثْوَاهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ - عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُ إِلَى الْآنِ، وَنَحْنُ جَزَيْنَاهُ بِالسَّيِّئَةِ عَلَى الْإِحْسَانِ، وَقَدْ أَقَرَّ الْخَصْمُ وَارْتَفَعَ النِّزَاعُ.
(ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أَيْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ لَهُ، وَالشَّهَادَةُ بِالصِّدْقِ الَّذِي عَلِمْتُهُ مِنْهُ، لِيَعْلَمَ الْآنَ - إِذْ يَبْلُغُهُ عَنِّي - أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ عَنْهُ مُنْذُ سُجِنَ إِلَى الْآنِ بِالنَّيْلِ مِنْ أَمَانَتِهِ، أَوِ الطَّعْنِ فِي شَرَفِهِ وَعِفَّتِهِ، بَلْ صَرَّحْتُ لِجَمَاعَةِ النِّسْوَةِ بِأَنَّنِي رَاوَدْتُهُ فَاسْتَعْصَمَ وَهُوَ شَاهِدٌ، وَهَأَنَذَا أُقِرُّ بِهَذَا أَمَامَ الْمَلِكِ وَمَلَئِهِ وَهُوَ غَائِبٌ، (وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بَلْ تَكُونُ عَاقِبَةُ كَيْدِهِنَّ الْفَضِيحَةَ وَالنَّكَالَ، وَلَقَدْ كِدْنَا لَهُ فَصَرَفَ رَبُّهُ عَنْهُ كَيْدَنَا وَسَجَنَّاهُ فَبَرَّأَهُ وَفَضَحَ مَكْرَنَا، حَتَّى شَهِدْنَا لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ السَّامِي عَلَى أَنْفُسِنَا.
وَهَذَا تَعْلِيلٌ آخَرُ لِإِقْرَارِهَا عَلَى تَبْرِئَةِ نَفْسِهَا مِنْ خِيَانَتِهِ بِالْغَيْبِ، اعْتَرَفَتْ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ بِأَنَّهَا لَا تُبَرِّئُ نَفْسَهَا مِنَ الْكَيْدِ لَهُ بِالسِّجْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ هَوَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَذْلِيلُهُ لَهَا، وَحَمْلُهُ عَلَى طَاعَتِهَا، وَفِيهِمَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهَا تَقُولُ: ذَلِكَ الَّذِي حَصَلَ أَقْرَرْتُ بِهِ لِيَعْلَمَ زَوْجِي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْفِعْلِ فِيمَا كَانَ مِنْ خَلْوَاتِي بِيُوسُفَ فِي غَيْبَتِهِ عَنَّا، وَأَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ أَنَّنِي رَاوَدْتُ هَذَا الشَّابَّ الْفَاتِنَ الَّذِي وَضَعَهُ فِي بَيْتِي، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنِي، فَاسْتَعْصَمَ وَامْتَنَعَ، فَبَقِيَ عِرْضُهُ - أَيِ الزَّوْجِ - مَصُونًا، وَشَرَفُهُ مَحْفُوظًا، وَلَئِنْ بَرَّأْتُ يُوسُفَ مِنَ الْإِثْمِ فَمَا أُبَرِّئُ مِنْهُ نَفْسِي فَـ (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) 53 وَسَيَأْتِي أَنَّ مِنْ رَحْمَتِهِ - تَعَالَى - بِبَعْضِ الْأَنْفُسِ صَرْفَهَا عَنِ الْأَمْرِ السُّوءِ وَهُوَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَمِنْهَا حِفْظُهُ إِيَّاهَا مِنْ طَاعَةِ الْأَمْرِ بِوَازِعٍ مِنْهَا، وَهِيَ دُونَ مَا قَبْلَهَا، وَمِنْهَا عَدَمُ تَيَسُّرِ عَمَلِ السُّوءِ، لَهَا بِامْتِنَاعِ مَنْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى حَدِّ (أَنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَلَّا تَجِدَ) .
هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَظْمِ الْآيَتَيْنِ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَلَكِنْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ
اتِّبَاعًا لِلرِّوَايَاتِ الْخَادِعَةِ إِلَى أَنَّهُمَا حِكَايَةٌ عَنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: ذَلِكَ الَّذِي كَانَ مِنِّي إِذِ امْتَنَعْتُ مِنْ إِجَابَةِ الْمَلِكِ وَاقْتَرَحْتُ عَلَيْهِ التَّحْقِيقَ فِي قَضِيَّةِ النِّسْوَةِ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ مِنَ التَّحْقِيقِ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي زَوْجِهِ بِالْغَيْبِ إِلَخْ، وَأَنَّهُ صَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يُبَرِّئُ نَفْسَهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ! وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَبَرَّأُ مِنْهُ السِّيَاقُ وَالنَّظْمُ وَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى كَثْرَةِ اعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ مُرَجِّحًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ: